تجلب أمطار الربيع السنوية الشاحنات الممتلئة بأجهزة الحاسوب إلى سدود الطاقة الكهرومائية، حيث يمكن لرجال الأعمال الاستفادة من الكهرباء الرخيصة لتعدين البتكوين.
وقال الكاتب تشارلي كامبيل في تقرير نشرته مجلة "تايم" (Time) الأميركية إن الصين تمتلك حوالي 75% من قدرة تعدين البتكوين في العالم بسبب سلاسل إمداد التكنولوجيا الراسخة والكهرباء الرخيصة للغاية، ويتطلب تعدين العملات المشفرة قدرا هائلا من قوة الحوسبة، مما يجعل استهلاك الطاقة عبئا رئيسيا للصناعة.
ويعني ذلك أنه خلال فصل الصيف عندما تكون الأمطار غزيرة يتدفق المعدنّون إلى محطات الطاقة الكهرومائية في سيتشوان التي لديها وفرة في الإمداد، وغالبا ما تقدم الحكومات المحلية الطاقة مقابل سعر ضئيل لجذب الوظائف والحصول على دعم لأرقام الناتج المحلي الإجمالي.
وفي أواخر مايو/أيار الماضي أشارت الحكومة الشعبية المركزية الصينية إلى شن حملة على تعدين العملات المشفرة، مما تسبب في انخفاض سعر البتكوين بنسبة 30% وخلق مصاعب للصناعة بأكملها التي خسرت أكثر من تريليون دولار من حيث القيمة.
وقد أخبر ليو هي نائب رئيس الحكومة الشعبية المركزية مجموعة من المسؤولين الماليين أن الحكومة ستضيّق الخناق على تعدين البتكوين وأنشطة التداول لضمان الاستقرار المالي، وعلى الرغم من أن المعدّنين والمتداولين الفرديين قد يكونون قادرين على الإفلات من الرقابة فإنه من المرجح أن يفكر المعدنّون التجاريون الأكبر في مراكز تعدين بديلة ذات شروط تنظيمية أقل صرامة، كما يقول المحللون.
تعليق عمليات التعدين
في الأسابيع الماضية أوقفت شركات مشاركة في تعدين العملات المشفرة عملياتها في الصين، وعلقت منصة تبادل العملات المشفرة "هيوبي" (Huobi) خدمات استضافة المعدّنين بالإضافة إلى بعض خدمات التداول، فيما قالت شركة تعدين العملات المشفرة "كاش كاو" إنها ستتوقف عن بيع الآلات للعملاء في الصين، وذكرت في بيان أنها "ستدعم جميع أنواع القوانين واللوائح في البلاد".
وفي الوقت نفسه، أعلن تشانغ تشور الرئيس التنفيذي لشركة "بيت توب" (BIT TOP) التي تمثل أكثر من 18% من معدل تجزئة تعدين البتكوين في الصين عن تعليق عملياته المحلية، وكتب في حسابه على موقع "ويبو" للتواصل الاجتماعي "سنقوم بالتعدين بشكل أساسي في أميركا الشمالية، ولا يستحق الأمر تحمل المخاطر التنظيمية".
خسائر بيئية
كانت حملة القمع المفاجئة مدفوعة إلى حد كبير بطبيعة المضاربة المتأصلة في العملات المشفرة، بالإضافة إلى كره الحزب الشيوعي الصيني الشديد للمخاطرة أو لأي شيء خارج عن سيطرته.
يشار إلى أن ما يزيد الأمور تعقيدا الخسائر البيئية الهائلة لتعدين العملات الرقمية التي تقوّض وعد الرئيس الصيني شي جين بينغ الطموح بجعل الصين محايدة للكربون بحلول عام 2060.
قبل الحملة، كان من المتوقع أن يولد تعدين البتكوين في الصين أكثر من 130 مليون طن متري من انبعاثات الكربون بحلول عام 2024، وذلك وفقا لدراسة نشرت في مجلة "نيتشر كوميونيكيشن" (Nature Communications) العلمية، وفي حال كانت صناعة تعدين البتكوين العالمية دولة فستكون في المرتبة الـ29 من بين أكبر مستهلكي الطاقة في العالم على قائمة الدول من حيث استخدام الطاقة فوق الأرجنتين التي يبلغ عدد سكانها حوالي 45 مليون نسمة.
وعلى الرغم من استفادة تعدين العملات المشفرة خلال أشهر الصيف من مصادر الطاقة المستدامة بفضل الأمطار الغزيرة فإن فصول الشتاء في الصين قاحلة، مما يعني أنه ينبغي على المعدّنين البحث عن إمدادات كهرباء بديلة رخيصة، ولا تنتج مزارع الطاقة الشمسية وطاقة الرياح إمدادات ثابتة كافية لتشغيل عمليات التعدين على مدار الساعة، ونتيجة لذلك يلجأ المعدّنون غالبا إلى البديل الوحيد الميسور التكلفة ألا وهو الفحم.
ويتم دفع منصات التعدين لآلاف الكيلومترات عبر الصين إلى محطات إنتاج الطاقة في منغوليا الداخلية أو مقاطعة شينجيانغ، ومع تعاقب الفصول سرعان ما يصبح ما يعتبره البعض الصناعة الأكثر خضرة في العالم -والمتمثل في تحويل فائض الطاقة المتجددة إلى نقد- أقذرها، خاصة أنه يقوم على حرق الفحم لخلق العملة.
وحققت صناعة تعدين العملات الرقمية أرباحا بقيمة 1.7 مليار دولار في أبريل/نيسان، وعلى الرغم من كون التعدين رقميا وليس ماديا فإنه يعني أيضا أن عملة البتكوين تحاكي بعض خصائص الذهب التي يمكن القول إنها أكثر وسائل التبادل نجاحا في التاريخ، والتي لا تزال أحد الأصول عالية القيمة رغم مرور آلاف السنين.
مشكلة التركيز
ربما اختُرعت العملات المشفرة للتحايل على سيطرة الحكومة، في المقابل، سمحت ثقافة التنظيم التنازلية في الصين لها بالسيطرة على الصناعة، وحتى في ظل حملة القمع الأخيرة لم تدعم بكين المؤسسات المالية أو تسمح لها بتداول العملات المشفرة، ولكنها غضت الطرف عن التعدين الذي كان مدعوما بالفعل من بعض الحكومات المحلية.
أصبح هذا التناقض صارخا، حيث زعمت العشرات من شركات التكنولوجيا التي تمتلك مكاتب فخمة في شنغن وشنغهاي أنها منخرطة في مجال الذكاء الاصطناعي أو معالجة البيانات الضخمة أو استخدام البلوكشين في الأغراض التجارية، ولكنها في الواقع تكسب أموالها من تعدين العملات المشفرة في السدود البعيدة ومحطات توليد الطاقة.
وبعد إعلان الصين عن اتخاذها إجراءات صارمة ضد الصناعة في 21 مايو/أيار انخفضت قيمة عملة البتكوين لتصل إلى 35 ألفا و263 دولارا، ويهدد التركيز العالي لنشاط التعدين في بلد ما النظام بأكمله الذي يدعم العملات المشفرة، وتنشأ نقاط الضعف عندما تتركز هذه القدرة على التعدين في مكان واحد، وتتمثل إحدى الركائز الأمنية الأساسية لتقنية البلوكشين التي ترتكز عليها العملات المشفرة في اتسام المعاملات بالشفافية والتحقق منها بشكل عام.
ماذا لو قررت نسبة كبيرة من معدّني البتكوين -ربما بأمر من الحكومة- التلاعب بطريقة معينة؟ من المحتمل أن يؤدي ذلك إلى حدوث انقسام في سوق البتكوين، أو على الأقل زرع حالة من عدم يقين كافية لإحداث اضطراب فيه.
تخفف حملة بكين الأخيرة من حدة القلق من هذا السيناريو، في المقابل، زرع ازدهار سوق البتكوين في الصين بذور الخلاف في أسواق أخرى، حيث أدت زيادة الطلب على بطاقات الرسومات التي تحظى بشعبية بين هواة الألعاب الحاسوبية وتستلزم معالجة البيانات الكبيرة إلى ارتفاع أسعارها بنسبة 25%، مما أخل بقطاعي الألعاب والذكاء الاصطناعي عالميا، كما يمكن أن تشكل كمية الطاقة المطلوبة للتعدين مشكلة في المناطق التي تعاني من تقلب في إمدادات الطاقة.