تفوح روائح رمضان المبارك قبل شهر كامل من قدومه، ويعيش المصريون أجواء احتفالية مبهجة واستثنائية في استقبال هذا الضيف العزيز على قلوب المصريين والأمة الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها.
"رمضان كريم" هي الكلمة التي تسمعها أذنك وتراها عيناك أينما حللت في الشوارع والمقاهي وأماكن العمل، في تهاني المصريين وكذلك في رسائلهم التي تصل إلى جوالك على مدار اليوم، وكذا التهاني والتبريكات بكلمات تحمل التفاؤل بالخير الذي يستبشرون به في هذا الشهر المبارك.
فانوس رمضان
هذه البهجة تكتمل بتشارك الجميع من كل الأعمار في وضع الزينة في الشوارع والطرقات إيذانًا بحلول الشهر الفضيل، كما يتبارى الشباب في تعليق "فانوس رمضان" أمام منازلهم للتعبير عن فرحتهم بقدوم الشهر المبارك، حيث يعد هذا "الفانوس" الأيقونة الأشهر في مصر منذ عهد الفاطميين للاحتفاء بحلول شهر رمضان المبارك، ومع قرب رؤية الهلال، يتجول الأطفال في كل مكان، حاملين فوانيسهم الصغيرة لتزداد البهجة ويعم الفرح في أرجاء المعمورة.
وتشهد الشوارع والأسواق التجارية والمحلات ازدحاما قبل حول رمضان لشراء المستلزمات الغذائية، خاصة "ياميش رمضان"، وهو مُصطلح يُطلقه المصريون على الفواكه المجففة والمكسرات من الجوز واللوز والبندق وغيرها، ومع "ياميش رمضان"، تمتلئ الشوارع والأسواق أيضا بباعة الحلوى الشرقية مثل الكنافة والقطايف إلى جانب الاهتمام بـ "المخللات" المختلفة الملونة التي لا تكتمل مائدة الإفطار دونها، فيما ينتشر بيع المشروبات الرمضانية الشهيرة، مثل التمر الهندي، العرقسوس، والسوبيا.
وللخير نصيب كبير في شوارع المعمورة بحلول الشهر المبارك، حيث تنتشر "موائد الرحمن" لإفطار الفقراء وعابري السبيل، ويتبارى فاعلو الخير في توزيع "شنط رمضان" على الفقراء، قبل أن تمتلئ الشوارع والطرقات أيضا بالشباب الذين يقومون بتوزيع وجبات الإفطار وزجاجات المياه على عابري السبيل والمسافرين الذين لم يتمكنوا من الإفطار في بيوتهم طوال الشهر المبارك.
مدفع الإفطار
الخير يعم كل الأرجاء مع سماع "مدفع الإفطار".. ذلك الطقس الرمضاني الذي بدأ عن طريق الصدفة في العصر الإخشيدي، عندما قرر "خوشقدم" والي مصر أن يجرّب مدفعًا جديدًا أهداه له أحد الولاة، وقد تصادف إطلاق الطلقة الأولى من هذا المدفع مع وقت غروب شمس في أول يوم في شهر رمضان عام 859 هـ، ليفاجئ الوالي بتوافد شيوخ وأهالي مدينة القاهرة على قصره ليشكروه على إطلاق المدفع في موعد الإفطار ظنًا منهم أنه أراد تنبيههم لموعد الإفطار، ليستمر خوشقدم في إطلاق مدفعه بعد ذلك، وليصبح لاحقا أحد أبرز المعالم فوق جبل المقطم بالقاهرة.
وتطور استخدام هذا المدفع ليعبر أيضا عن موعد السحور، حيث بات "مدفع الإمساك" من مظاهر رمضان في مصر أيضًا، جنبًا إلى جنب مع "المسحراتي".. ذلك الشخص الذي يجوب الشوارع حاملا "طبلة" لتنبيه الناس بموعد السحور باستخدام صوته العالي وكلمته الشهيرة "أصحى يا نايم.. وحد الدايم"، والذي ظل موجودا حتى الآن في مصر منذ القرن الثالث الهجري رغم انتشار وسائل التكنولوجيا الحديثة والجوالات.
وبالتجمعات العائلية ورفقة الأصدقاء، تكتمل بهجة شهر رمضان المبارك في مصر بموائد الإفطار المتنوعة، بينما لا تخلو موائد السحور من "طبق الفول" الشهير، كما يحرص المصريون في شهر رمضان المبارك على الخروج للحدائق والمقاهي بعد صلاة التراويح للتنزه في أجواء تشبه احتفالات الأعياد، والتي تستمر حتى وقت السحور.
وحتى صلاة التراويح نفسها في مصر لها مذاق مختلف.. فكل مسجد يتبارى في تقديم أروع أصوات القراء من أجل احياء صلاة التراويح طيلة الشهر الفضيل بالإضافة إلى ما يشبه المنافسة بين المساجد في ختم القرآن الكريم على مداري ليالي الشهر.
وتتزين المساجد ومآذنها بالأنوار والزينات مع عبق جميل يفوح بالعبير والمسك لا تخطئة حواسك فور دخولك ساحات مساجد مصر في تلك الليالي العامرة بالمصلين
هذه الأجواء تكتسب طابعا خاصا أيضا في المناطق التاريخية والتراثية، لا سيما في منطقة الحسين والأزهر بالقاهرة، وغيرها من مدن مصر من شمالها إلى جنوبها، كما تقام أيضًا الخيام الرمضانية المتنوعة التي تقدم وجبات الإفطار والسحور وسط أجواء عامرة بالمودة والبهجة.
وتلك الأجواء المفحمة بالبهجة والخير اكتسبت بعدا مهما في الدراما والأفلام المصرية التي عبرت عن تفاصيل حياة المصريين في رمضان، كما ظهرت جليا أيضًا في عيون الكتاب والأدباء الذين جسدوا في روايات عديدة حياة المصريين فى رمضان، وسطروا لها نصوصا اجتماعية تمثل سجلا لأحوال مصر عبر العصور المختلفة، كما تغنت قصائد الشعراء العديدة بروائح الشهر المبارك في مصر، كان من بينها، قصيدة للشاعر محمود حسن إسماعيل تحت عنوان "الله والزمن (رمضان)" في ديوانه "صوت من الله"، حيث عبر عن الفرح بقدوم هذا الشهر المبارك في أبيات رائعة، كما خرجت العديد من الأغاني التي تنشر البهجة بقدوم شهر رمضان، والتي تذيعها القنوات المصرية والعربية سنويًا منذ لحظة الإعلان عن استطلاع عن هلال الشهر المبارك، وعلى رأسها أغنية "رمضان جانا" التي ألفها الشاعر حسين طنطاوي وغناها المطرب محمد عبد المطلب، لتصبح أيقونة الفرحة والبهجة بقدوم شهر رمضان المبارك في مصر والعالم العربي.