شباب يقرعون الطبول، ويضربون الدفوف، ويحلقون بالشوارع متطوعين، ممسكين في أيديهم أدواتهم التي تحدث أصواتا عالية، مصحوبة بنغمات الأصوات الندية، التي تنادي لإيقاظ الصائمين وتذكيرهم بفضيلة السحور وببركته قبل أن يدخل وقت الفجر فيؤذن لميلاد يوم جديد من أيام رمضان المبارك.
هؤلاء الشباب يحاولون من خلال جهودهم البسيطة إحياء هذه العادة الرمضانية التي ارتبطت بشهر رمضان قديما، وارتبط بها أناس اتخذوها مهنة حسبة لوجه الله الكريم، وعلى الرغم من التغيرات المجتمعية والتمدن الذي طال كل أنحاء الدولة، فمازالت هناك رغبة حميدة من الشباب للمحافظة على هذه المهنة أو العادة الرمضانية فيجوبون المناطق والفرجان المختلفة في الدوحة لإيقاظ الصائمين من نومهم قبل أذان الفجر، لتظل مهنة المسحر حاضرة.
عتيق السليطي: مهنة (المسحر) مهنة اقتضتها ظروف الناس في فترة من الزمن حيث كان الناس ينامون في وقت مبكر بخلاف الوقت الراهن
وقال السيد عتيق السليطي الباحث في التراث في تصريح لوكالة الأنباء القطرية /قنا/: "تعتبر مهنة (المسحر) في دولة قطر من المهن التي سادت ثم بادت لتعود في بعض المناطق، وهي مهنة اقتضتها ظروف الناس في فترة من الزمن، حيث كان الناس ينامون في وقت مبكر بخلاف الوقت الراهن، ويحتاجون في شهر رمضان إلى من يوقظهم للسحور قبيل موعد آذن الفجر، ومن هنا كانت مهنة (المسحر) الموسمية التي ترتبط بشهر رمضان المعظم ارتباطا وثيقا".
وأضاف السليطي "جرى العرف أن يقوم متطوع من أهل الحي /الفريج/ بمهمة إيقاظ الناس، فكان يستعير طبلا من الفرقة الشعبية المتواجدة في الحي أو هو يكون أحد أعضائها وهذا الغالب، فيخرج في الثلث الأخير من الليل ليسحر ويضرب على طبلة إيقاعا ثابتا مرفقا مرددا بصوته العذب أهزوجة مثل، (لا إله الا الله محمد يا رسول الله.. لا إله الا الله سحور يا عباد الله)، وكان يوجد عدد من المسحرين الذين كانوا يجوبون مناطق الدوحة، ومن أشهرهم "سليم بو حلوم، وكرم وسعد بن عواد، وسعد بن نايم، وراشد الماس، وإدريس خيري".
يجب استعادة هذه العادة الرمضانية في أماكن تواجد الناس مثل سوق واقف والمؤسسة العامة للحي الثقافي
وأوضح، أن مهنة المسحر تبقى جزءا من التراث يمارسها بعض الشباب من باب محاكاة المسحر القديم وحفاظا على التراث واليوم، مشيدا باستعادة هذه العادة الرمضانية في أماكن تواجد الناس مثل سوق واقف والمؤسسة العامة للحي الثقافي /كتارا/ وبعض المناطق ومنها الدفنة التي ما زالت مستمرة على هذه العادة منذ عدة سنوات وحتى الآن.
فيصل التميمي: منطقة الدفنة في الدوحة مازالت تحافظ على وجود المسحر طيلة شهر رمضان المبارك
ومن جهته، أوضح السيد فيصل التميمي الباحث بالتراث أيضا في تصريح مماثل لـ/قنا/، أن منطقة الدفنة في الدوحة مازالت تحافظ على وجود المسحر طيلة شهر رمضان المبارك ، حيث بدأ عمل المسحر في ذات المنطقة في عام 1985، وذلك مع بداية إنشاء بعض الأحياء السكنية في المنطقة، وبحكم أنه أحد أعضاء الفرقة القومية القطرية للفنون الشعبية آنذاك قام مع مجموعة من الأعضاء الآخرين ومنهم مدعث القحطاني، وأحمد راشد، والفنان أحمد عبدالرحيم، بإطلاق أول مسحر في المنطقة، واستمر العمل في هذه المهنة حتى عام 1995 أي لعشر سنوات متواصلة، لينقطع بعدها أعضاء الفرقة عن مهنة المسحر، وعاودوا العمل في نفس المهنة مرة أخرى مع بداية عام 2013 ولازالوا مستمرين عليها حتى اليوم، موضحا أن أعضاء فريق المسحر حريصون على الاستمرار في هذه المهنة.
وأضاف التميمي "كان في كل فريج من مناطق دولة قطر مسحر خاص به، وبعضها أكثر من مسحر حسب مساحة الفريج وعدد سكانه، حيث يبدأ المسحر جولته قبل موعد الإمساك بساعتين تقريبا"، موضحا أنه في السابق كان أهل الفريج يعتمدون على صوت المسحر أثناء المرور بالقرب من منازلهم لإيقاظهم من النوم لتجهيز السحور وتناوله قبل موعد آذان الفجر بوقت كاف.
أحمد عبدالحميد: تفاعل الناس هو ما يدفعنا إلى مواصلة السير على الأقدام لمسافة طويلة حتى نلتقي بالأطفال الذين يرحبون بنا
وبدوره قال السيد أحمد عبدالحميد أحد أعضاء فريق المسحر "يلمس أعضاء الفريق تفاعلا كبيرا من أهالي الفريج خلال قيامهم بالمرور أمام المنازل، وهو ما يدفعنا إلى مواصلة السير على الأقدام لمسافة طويلة حتى نلتقي بالأطفال الذين يرحبون بنا، ونرى رسم البهجة والسرور على ثغورهم فرحة برؤيتنا أثناء القيام بمهنة المسحر".
وفي سياق متصل، قال السيد علي المناعي /من سكان منطقة الدفنة/، إن مهنة المسحر من العادات القطرية التي لازالت بعض المناطق من ضمنها منطقته تحافظ عليها حتى الآن، لافتا إلى أن المسحر خلال شهر رمضان ينتظر سكان الفريج مروره بطريقته ولباسه التقليدي أمام منازلهم، إيذانا بقرب موعد آذان الفجر، ومنهم من يحرص على تعريف أبنائه بمهنة المسحر، معربا عن أمنيته بأن تعمم هذه المهنة على مختلف مناطق الدولة لتعكس جانبا من التراث القطري الأصيل.
يذكر أن بدايات المسحر تعود إلى عهد النبي محمد /صلى الله عليه وسلم/، حيث كان الصائمون يعرفون جواز الأكل والشرب بأذان المؤذن بلال بن رباح، ويعرفون الإمساك عنه بأذان ابن أم مكتوم.. ومع اتساع رقعة الدولة الإسلامية تعددت أساليب تنبيه الصائمين، حيث ابتكر المسلمون وسائل جديدة في الولايات الإسلامية من أجل ذلك فيذكر المؤرخون أن "المسحراتي" أو المسحر ظهر إلى الوجود عندما لاحظ والي مصر "عتبة بن إسحاق" أن الناس لا ينتبهون إلى وقت السحور، ولا يوجد من يقوم بهذه المهمة آنذاك، فتطوع هو بنفسه لهذه المهمة فكان يطوف شوارع القاهرة ليلا لإيقاظ أهلها وقت السحور، وكان ذلك عام 238 هجرية، حيث كان يطوف على قدميه سيرا من مدينة العسكر إلى مسجد عمرو بن العاص في الفسطاط مناديا الناس: (عباد الله تسحروا فإن في السحور بركة)، وفي عصر الدولة الفاطمية أصدر الحاكم بأمر الله الفاطمي أمرا لجنوده بأن يمروا على البيوت ويطرقوا الأبواب بهدف إيقاظ النائمين للسحور، ومع مرور الأيام تم تعيين رجل للقيام بمهمة المسحراتي كان ينادي: "يا أهل الله قوموا تسحروا"، ويطرق على أبواب المنازل بعصا كان يحملها في يده.