بعد عامين من الانقطاع عادت سنة الاعتكاف إلى الواجهة كخلوة روحية وفرصة حقيقية لإصلاح القلب والدين، وتنمية الزاد الروحي لمواجهة أعباء الحياة.
وعقب صدور قرار السماح بالاعتكاف في المساجد لشهر رمضان 1443هـ، فر المسلمون إلى بيوت الله في العشر الأواخر من هذا الشهر الكريم؛ هربا من صخب الدنيا إلى راحة النفس والاستئناس بمعية الله.
وقد سنّ الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الاعتكاف في المساجد، وأباحه للمرأة في بيتها أو مصلاها في بيوت الله، ولم يحدده بزمان، بل جعله مفتوحا أمام العباد في كل وقت وحين ليتركوا الدنيا وما فيها من ملذات وشهوات وينشغلوا بطلب الآخرة، ويتفرغوا للعبادات آملين العفو والصفح والمغفرة وقبول الطاعات.
الاعتكاف يشرع في العشر الأواخر كنوع من الاجتهاد في هذه الأيام المباركة التماسا لليلة القدر
ويشرع الاعتكاف في العشر الأواخر، كنوع من الاجتهاد في هذه الأيام المباركة؛ التماسا لليلة القدر التي ميزها القرآن الكريم بأنها خير من ألف شهر، والتي يتم تحريها في "أوتار" العشر الأواخر؛ لما في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان»، وقد كانت هذه سنته صلى الله عليه وآله وسلم حتى توفاه الله عز وجل، قبل أن يعتكف في العام الذي قبض فيه عشرين يوما.
تعريف الاعتكاف
وعرف الدكتور إبراهيم الأنصاري -عميد كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة قطر- الاعتكاف لغة بأنه الإقبال على الشيء والاحتباس فيه، واصطلاحا بأنه الإقامة في المسجد بنية التقرب إلى الله عز وجل، ليلا كان أو نهارا، مؤكدا أن الأصل في الاعتكاف هو الانقطاع عن شؤون الدنيا، وتخصيص الوقت للأمور الروحية كالصلاة والاستغفار وتلاوة القرآن، والتفكر في خلق الله وحكمته، والتأمل في النفس ومختلف العبادات التي تزكي النفس وترتقي بالروح.
وأضاف أن الإسلام اهتم بالعلم الدنيوي وحض عليه وعظم فضله وأهميته، لكنه أوضح أن جلب العلوم الدنيوية ومجالات العمل إلى مكان هذه الخلوة الروحية لا يسمى اعتكافا، حتى وإن كانت علوما شرعية كالفقه والشريعة والحديث وغيرها من العلوم العقلية؛ لأنه يجلب عمله داخل المعتكف الذي لم يخصص لذلك، كما أن "الروح" لن ترتقي وتصفو إذا انشغل صاحبها بأمور لا تنفعها.
حكمة الاعتكاف
وبين الدكتور الأنصاري أن حكمة الاعتكاف تتمثل في عدة أمور، منها عكوف القلب على طاعة الله ووقف النفس له، والخلوة والاشتغال به وحده، والانقطاع عن الاشتغال بالخلق والعمل وأمور العقل، وتفريغ القلب من أمور الدنيا، والتفكر في مرضاته، والتقرب منه، والأنس به؛ لذلك فإن الانشغال بالهواتف النقالة واصطحاب الكمبيوتر أو إنهاء المعاملات داخل المسجد ليس اعتكافا؛ لأن خلوة الروح لم تتحقق، داعيا من يفعل ذلك إلى تخصيص وقت لإنهاء مصالحه الدنيوية ليتفرغ لعبادته الروحية، خاصة أن الاعتكاف غير محدد المدة.
وأشار إلى أن خروج الرجل أو المرأة من المعتكف لغير ضرورة ملحة هو قطع لسنة الاعتكاف، وعليه تجديد النية عند عودته، ولافتا إلى أن الصوم ليس شرطا للاعتكاف في نهار رمضان أو ليله، إذا كان المرء مريضا.
فرصة لتدريب النفس
وأوضح عميد كلية الشريعة والدراسات الإسلامية أن أهمية هذه الشعيرة الدينية كفرصة لتدريب النفس على الخلوة ومناجاة الله، والتواصل أكثر معه سبحانه، وتلاوة القرآن وطلب العون منه، ليس في رمضان فحسب بل في سائر أيام الله، مؤكدا أن الإنسان إذا اعتاد هذه العبادة فإن روحه ستطلبها مرارا وتكرارا؛ لدورها الكبير في تنمية الزاد الروحي لمواجهة "المادية المتوحشة" وأعباء الحياة، والبعد عن الدنيا والناس، ليس لأنهما شر، لكنه فرار إلى الله ورحمته ورضوانه.
ونبه إلى عدم الاعتكاف مع الأصحاب والجيران والأصدقاء والخوض في أحاديث ونقاشات، وإن كانت فقهية؛ لأنه وقت مخصص للعبادة، وعلى المرء أن يترك مثل هذه الأحاديث و"السوالف" إلى عيد الفطر المبارك؛ لأن فيه متسعا لمثل هذه الأمور الاجتماعية.
اعتكاف النساء
وقال الدكتور إبراهيم الأنصاري: إن أمهات المؤمنين والصحابيات ثبت اعتكافهن في المسجد في مكان مستقل، منوها بأن الإسلام ميز المرأة عن الرجل بأن أجاز لها الاعتكاف في مكان مخصص داخل بيتها، وإذا أرادت الاعتكاف في المسجد فالأمر متروك لتوفير مكان مستقل، وبإذن وليها إذا أرادت الاعتكاف لأكثر من يوم، وأن يكون المكان معزولا ومحتشما، وغير ذلك من الشروط التي تضعها الجهات المختصة.