بحلول شهر رمضان المبارك، تعيش مصر أجواء احتفالية مميزة، بما تحتويه من عادات وطقوس مبهجة واستثنائية ظلت حاضرة على مر العصور في استقبال هذا الضيف العزيز كل عام.
فعلى مدار قرون، استهل المصريون الاحتفال بهذا الشهر الكريم بالزينة والفوانيس، والتي تعد من بين العادات التي لم تتغير في مصر رغم مظاهر التطور والحداثة، وذلك بدءا من الاحتفال بليلة رؤية هلال شهر رمضان، والتي تمثل تقليدا متوارثا رسميا وشعبيا منذ عهد العباسيين، مرورا بالعصر الفاطمي، ثم المملوكي، حيث كانت تضاء الأنوار على المآذن والمحال، ويخرج قاضي القضاة في موكب بهيج، محملا بالفوانيس للإعلان عن رؤية الهلال، وهي عادة استمرت كذلك في عهد محمد علي، وصولا للقرن العشرين، بمشاركة طوائف الشعب، للإعلان عن بدء شهر رمضان المبارك.
ورغم تطور عملية استطلاع هلال رمضان ووسائل الإعلان عن قدوم هذا الشهر الكريم، ظلت مظاهر الفرحة والاحتفال حاضرة عبر تشارك الجميع من كل الأعمار في وضع الزينة في الشوارع والطرقات إيذانا بحلول الشهر الفضيل، ويتبارى الشباب في تعليق "فانوس رمضان" أمام منازلهم، حيث يعد "الفانوس" الأيقونة الأشهر في مصر منذ عهد الفاطميين للاحتفاء بحلول شهر رمضان المبارك، كما يتجول الأطفال في كل مكان، حاملين فوانيسهم الصغيرة لتزداد البهجة ويعم الفرح أرجاء المعمورة.
ومع هذه الأجواء المبهجة، يتبادل المصريون التهاني بحلول شهر رمضان المبارك بكلمات تحمل التفاؤل، أشهرها "رمضان كريم".. تلك الكلمة التي تسمعها أينما حللت في الشوارع والمقاهي وأماكن العمل، وكذلك في رسائل التهنئة في العصر الحديث عبر الجوال ووسائل التواصل الاجتماعي، للتعبير عن الخير الذي يستبشرون به في هذا الشهر المبارك.
وتكتمل هذه الأجواء المفرحة برحلة مبكرة لتجهيز مائدة طعام متنوعة ومتوارثة أيضا من الأجداد، حيث تشهد الشوارع والأسواق التجارية والمحال ازدحاما قبل حلول شهر رمضان لشراء المستلزمات الغذائية، خاصة "ياميش رمضان"، وهو مصطلح يطلقه المصريون على الفواكه المجففة والمكسرات من الجوز واللوز والبندق وغيرها، كما تمتلئ الشوارع والأسواق أيضا بباعة الحلوى الشرقية مثل الكنافة والقطايف، و"المخللات" الملونة، بالإضافة للمشروبات الرمضانية الشهيرة، مثل التمر الهندي، والعرقسوس، والسوبيا.
وعلى موائد الإفطار، تحرص العائلات المصرية على التجمع خاصة في اليوم الأول لتناول هذا الطعام المنوع، كما تكون أيام الشهر المبارك فرصة لتجمعات الأصدقاء والتنزه ليلا، وتناول وجبة السحور أيضا التي لا تخلو من طبق الفول المدمس الشهير، إلى جانب الأنواع الأخرى من المأكولات التي تساعد على الصيام، مع انتشار أيضا "الخيم الرمضانية"، وهي أحد المظاهر الحديثة المميزة للتجمعات العامرة بالمودة والبهجة على موائد الإفطار والسحور.
وخلال تجمعات موائد الإفطار، يترقب المصريون لحظة انطلاق مدفع الإفطار.. ذلك الطقس الرمضاني الذي ظل أحد أبرز مظاهر الاحتفال بالشهر المبارك منذ القرن التاسع الهجري، حيث بدأت قصته في مصر عن طريق الصدفة في العصر الإخشيدي، عندما قرر "خوشقدم" والي مصر أن يجرب مدفعا جديدا أهداه له أحد الولاة، وقد تصادف إطلاق الطلقة الأولى من هذا المدفع مع وقت غروب الشمس في أول يوم في شهر رمضان عام 859 هـ، ليفاجئ الوالي بتوافد شيوخ وأهالي مدينة القاهرة على قصره ليشكروه على إطلاق المدفع في موعد الإفطار ظنا منهم أنه أراد تنبيههم لموعد الإفطار، ليستمر خوشقدم في إطلاق مدفعه بعد ذلك، وليصبح لاحقا أحد أبرز المعالم فوق جبل المقطم بالقاهرة.
كما احتفظ المصريون على مدار قرون بمهنة المسحراتي، التي ارتبطت فقط بشهر رمضان المبارك، حيث يجوب المسحراتي الشوارع حاملا "طبلة" لتنبيه الناس بموعد السحور باستخدام صوته العالي وكلمته الشهيرة "اصحى يا نايم.. وحد الدايم"، والذي ظل حاضرا حتى الآن في مصر منذ القرن الثالث الهجري رغم انتشار وسائل التكنولوجيا الحديثة والجوالات التي يمكن من خلالها التنبيه لموعد السحور.
وما بين الإفطار والسحور، يحرص المصريون على اصطحاب أسرهم لصلاة التراويح، والتي تكتسب في مصر مذاقا مختلفا.. فكل مسجد يتبارى في تقديم أروع أصوات القراء، من أجل إحياء صلاة التراويح طيلة الشهر الفضيل، بالإضافة إلى ما يشبه المنافسة بين المساجد في ختم القرآن الكريم على مدار ليالي الشهر الكريم، كما تتزين المساجد ومآذنها بالأنوار والزينات مع عبق جميل يغمر تلك الليالي العامرة بالمصلين، لاسيما في المناطق التاريخية والتراثية التي تحظى بشغف كبير لزيارتها خلال الشهر المبارك، مثل منطقة الحسين والأزهر بالقاهرة، وغيرها من المناطق التاريخية في مدن مصر.
وسط هذه الأجواء، يعم الخير شوارع المعمورة في الشهر المبارك، ويتبارى الجميع في تقديم العون للفقراء وعابري السبيل، حيث تنتشر "موائد الرحمن" لإفطار الصائمين، وهي عادة بدأت تنتشر في مصر في عهد أحمد بن طولون مؤسس الدولة الطولونية في القرن الثالث الهجري، حيث كان يشتهر بالكرم والسخاء وحب الخير، ويأمر الأعيان والتجار والأثرياء بإقامة ولائم للسائلين، حتى عم ذلك الخير أرجاء مصر وبقيت تلك العادة أحد أبرز مظاهر شهر رمضان المبارك، قبل أن تشمل أيضا في العصر الحديث توزيع "شنط رمضان" على الفقراء، وانتشار الشباب في الشوارع والطرقات لتوزيع وجبات الإفطار وزجاجات المياه على عابري السبيل والمسافرين الذين لم يتمكنوا من الإفطار في بيوتهم طوال الشهر المبارك.
وفي الأعمال الثقافية والفنية، حظيت تلك الأجواء المفعمة بالبهجة والخير باهتمام كبير في الدراما والأفلام المصرية التي عبرت عن تفاصيل حياة المصريين في رمضان، كما ظهرت جليا أيضا في عيون الكتاب والأدباء الذين جسدوا في روايات عديدة حياة المصريين في رمضان، وسطروا لها نصوصا اجتماعية تمثل سجلا لأحوال مصر عبر العصور المختلفة.
كما تغنت قصائد الشعراء بروائح الشهر المبارك في مصر، ومن بينها، قصيدة الشاعر محمود حسن إسماعيل "الله والزمن (رمضان)" في ديوانه "صوت من الله"، حيث عبر عن الفرح بقدوم هذا الشهر المبارك في أبيات رائعة، كما خرجت العديد من الأغاني التي تنشر البهجة بقدوم شهر رمضان، والتي تذيعها القنوات المصرية والعربية سنويا منذ لحظة الإعلان عن استطلاع هلال الشهر المبارك، وعلى رأسها أغنية "رمضان جانا" التي ألفها الشاعر حسين طنطاوي وغناها المطرب محمد عبدالمطلب، لتصبح أيقونة الفرحة والبهجة بقدوم شهر رمضان المبارك في مصر والعالم العربي.