قطر، هي لؤلؤة الخليج ودرته وواسطة عقده. ارتبط اسمها قديما وحديثا بالغوص على اللؤلؤ وجودته وقيمته نظرا لتميزه بالصفاء والنقاء والبريق والجمال.
ورغم ما لحق بتجارة اللؤلؤ من بوار وكساد في بدايات القرن الماضي بسبب عدد من الأزمات أبرزها الحرب العالمية الأولى، وما تلاها من انتشار اللؤلؤ الزراعي على يد الياباني ميكيموتو كويتشي.. فإن التعلق بالبحر وركوب أهواله من أجل هذه اللآلئ الثمينة لم يثن المخلصين لهذا الإرث بالابتعاد عنه، وبقي عصيا على الاندثار بسبب همة عدد من الرجال على قلة عددهم، نظرا لأن اللؤلؤ الطبيعي لن يعوض مكانه الاصطناعي.. فالأصيل يبقى أصيلا دائما مهما تغيرت الظروف والأحوال.
إرث الغوص
ومن الشباب القطري الذين أخذوا على عاتقهم حمل مشعل الحفاظ على إرث الغوص على اللؤلؤ، الغواص محمد عبدالله حسين السادة، الذي أكد في تصريحات خاصة لوكالة الأنباء القطرية "قنا"، أنه عاهد نفسه ألا يفارق البحر، ويغوص في أعماقه بما لا يقل عن مرتين في الأسبوع، سعيا للتشبث بهذا التراث العريق، موضحا أنه يقصد الهيرات (مكان تواجد اللؤلؤ)، من أجل استخراج المحار، وفلقه فيما بعد لاستخراج اللؤلؤ.
وأشار السادة الذي كان يتحدث وسط (طراده) داخل البحر وهو منهمك في فلق المحار الذي يخرجه من (الديين/ كيس مغزول من خيوط غليظة) إلى أنه يستمتع بهذه المهنة (الهواية)، ووجد نفسه فيها، ويصعب عليه أن يفارق البحر، منوها في الوقت نفسه، إلى أن هناك هيرات تبعد عن الساحل بحوالي 130 إلى 140 كيلومترا.. وأن العثور على اللؤلؤ والنادر منه ينسي التعب كله.
ولفت السادة إلى أنه نظرا لارتباط أهل قطر باللؤلؤ، فإنه لا تكاد تجد فردا إلا وأحد أقاربه له صلة باللؤلؤ، سواء كان نوخذة أو طواشا أو غواصا أو سيبا أو غير ذلك من المهن المرتبطة بالبحر.
وينحدر محمد السادة من مدينة الرويس الساحلية (شمال قطر)، وتعود به الذكرى إلى جده الراحل حسين بن صالح وعمه محمد بن حسين اللذين كانا غواصين على اللؤلؤ، داعيا إلى الحفاظ على هذا الإرث واستمراريته، والمحافظة على أساليبه القديمة وتطويرها بما استجد من تقنيات حديثة مثل ارتداء النظارات والزعنفة والهواء المضغوط للمكوث وقتا أطول تحت الماء.
الأساليب القديمة
ورغم ذلك، فإن الغواص السادة، ينوه إلى أنه يستعمل أحيانا الأساليب القديمة، حيث يقوم بربط رجله بالحجر ليسحبه إلى قاع البحر لمسافة تصل إلى 23 مترا، وعلى (نفس) واحد، واصفا ذلك بالشعور الجميل حينما يمر الماء بسرعة على وجهه، وأنه يحس بما كان يحس به الأجداد، مشيرا في الوقت نفسه، إلى أنه يشق طريقه في استكشاف هيرات جديدة، مؤكدا أن البحر القطري غني باللؤلؤ وكمية المحار الموجودة في هيراته، حيث إن البيئة البحرية ما تزال بصحتها وجمالها عدا بعض الأماكن التي تأثرت بالإنشاءات في البحر، أو بمرور المراكب الكبيرة، قائلا إن "أغلب الأماكن بما يصل إلى 90 بالمئة لا تزال حية، ولا يزال المحار فيها يتكاثر بصورة طبيعية.. حيث إن بحرنا جميل ونسأل الله أن يديم علينا هذه النعمة".
سبل إبقاء التراث حيا
وعن السبل من أجل إبقاء هذا التراث حيا للأجيال المقبلة، أشاد الغواص محمد السادة بما تقوم به بعض الجهات من قبيل المؤسسة العامة للحي الثقافي كتارا، بتنظيم مسابقات للكبار والصغار، مثل سنيار والمينى، وما يقوم به مركز نوماس التابع لوزارة الثقافة أيضا.
وأضاف: إن البعض يرى أن هذه الهواية فيها مشقة وأنها غير ذات جدوى، لأنهم ينظرون إلى العائد المادي من ورائها، مشيرا إلى أن الغواصين قديما كانوا يرجعون موسما أو موسمين متتاليين ولا يصيدون شيئا، وأحيانا ما يجنونه في موسم واحد يسدون به مصاريف عامين قادمين.
وشدد السادة على أن ما يصبو إليه في رحلته في الغوص على اللؤلؤ ليس الكمية، بقدر ما يبحث عن النادر وحجم حبة اللولو، معربا عن استعداده للتعاون في مجاله وبتحديد أماكن الهيرات وكثافة المحار، كاشفا بهذا الخصوص أن رحلته في الغوص لسنوات، مكنته من رسم خريطة جديدة للهيرات غير تلك التي رسمها العسيري رحمه الله، من أجل الوصول إلى أماكن المحار بطريقة أسرع.
ونظرا للقيمة التاريخية لتراث الغوص على اللؤلؤ، فإن عددا من الجهات الحكومية والخاصة والباحثين أخذوا على عاتقهم توثيق هذا التراث وحفظه وصونه للأجيال القادمة.
وتعد المكتبة التراثية بمكتبة قطر الوطنية، نموذجا فريدا في ذلك، نظرا لتوفرها على أندر المصادر والمراجع التي تعنى بالتراث البحري القطري.
مريم المطوع: المكتبة التراثية تمتلك رصيدا هائلا من التراث المكتوب عن الغوص
وفي هذا الصدد، قالت السيدة مريم المطوع، رئيس إتاحة المجموعات في المكتبة التراثية بمكتبة قطر الوطنية في تصريح خاص لوكالة الأنباء القطرية إن المكتبة التراثية تمتلك رصيدا هائلا من التراث المكتوب عن الغوص، وأن من أهم أهدافها حفظ التاريخ والتراث القطري، لذلك تعمل المكتبة التراثية على العديد من المشاريع التي تعنى بحفظ التاريخ القطري سواء بجمع الكتب والوثائق والصور الخاصة بتاريخ قطر أو عن طريق التاريخ الشفوي والأرشيف العائلي، مشيرة إلى أن هذه المصادر الموجودة في المكتبة التراثية تستخدم في حفظ التراث البحري القطري من الاندثار، حيث إن إلقاء الضوء على الممارسات الثقافية المصاحبة للغوص والتركيز على الفن البحري يعتبر حفظا لجانب كبير من الفلكلور والثقافة الشعبية للمجتمع القطري بشكل خاص والفلكلور الخليجي بشكل عام.
المصادر والمراجع
وساقت مريم المطوع، عددا من المصادر والمراجع التي تؤرخ للغوص على اللؤلؤ سواء ما ذكره عدد من الرحالة الأجانب من قبيل الطبيب الأمريكي (بول هاريسون) في كتابه العرب في ديارهم والذي زار قطر عام 1918، بالإضافة إلى كتاب (وليم بلجريف) المنشور عام 1866، والذي ذكر فيه أن القطريين يقضون عمرهم كله بالعمل في البحر.. فالنصف الأول يقضونه في البحث عن اللؤلؤ والنصف الثاني في البحث عن السمك والتجارة، منوهة بأن كتابه Narrative of a year's journey through Central and Eastern Arabia (1862-1863)، يعتبر مصدرا مهما لتاريخ الخليج، ويتحدث عن زيارته التي استمرت لمدة سنة إلى وسط وشرق الجزيرة العربية .
كما أشارت رئيس إتاحة المجموعات في المكتبة التراثية بمكتبة قطر الوطنية، إلى ما ضمنه الرحالة الإيطالي (جسبارو بالبي) في كتابه، وهو يعد أحد أهم الغربيين الذين زاروا الشرق مبكرا في القرن السادس عشر، حيث مر خلال رحلته بشواطئ الخليج العربي وتحدث عن بعض عاداتهم وحرفهم. ووصف في كتابه بالتفصيل أسلوب العرب في الملاحة والغوص على اللؤلؤ وقدم معلومات ذات أهمية عن مغاصات اللؤلؤ، وذكر قائمة بأسماء مغاصات اللؤلؤ من قطر إلى مسقط. كما ذكر عددا من المناطق القطرية منها بر قطر، حالول وجزيرة شراعوه.
إلى ذلك، لفتت السيدة مريم المطوع، إلى أن مكتبة قطر الرقمية وثقت مصطلحات الغوص سواء ما يتعلق بأدوات الغوص أو الطاقم أو مغاصات اللؤلؤ مرتبة ترتيبا أبجديا.
توثيق الهيرات
وعن الخرائط التي توثق لـ"الهيرات"، ذكرت المطوع، أن ضفاف الخليج كانت معروفة جيدا لدى الأوروبيين، حيث لوحظت في العديد من خرائط المنطقة منذ منتصف القرن السادس عشر الميلادي وما بعده. ثم مع الوجود البريطاني في المنطقة، أصدرت شركة الهند الشرقية البريطانية، بتوجيه من جون جوردون لوريمر، المقيم البريطاني في الخليج (1870-1914) دليلا جغرافيا للخليج العربي وعمان ووسط الجزيرة العربية (نشر بين 1908-1915) حيث تم إجراء مسح منهجي لمغاصات اللؤلؤ، وطبع دليل الخليج بقسميه الجغرافي والتاريخي من المصادر الأولية المهمة للبحث في تاريخ الخليج.
كما أشارت إلى جهود السيد خليفة محمد راشد العسيري المتوفى سنة 1977، والذي قضى عشرة أعوام في إعداد خريطة عن مغاصات اللؤلؤ، إذ جاء اهتمامه بإعدادها عندما وقعت في يده خريطة لمغاصات صيد اللؤلؤ واكتشف فيها الكثير من الأخطاء وقام بإعداد هذه الخريطة الجديدة بهدف مساعدة راكبي البحر للتعرف على مواقع المغاصات والجزر المختلفة.