تتجاذب تقارير المؤسسات المالية الدولية والبنوك العالمية قيمة الجنيه المصري الذي سجل أسوأ أداء له أمام الدولار الأمريكي منذ تعويم نوفمبر 2016 ومن ثم تعويم مارس 2023، الذي أعقبه أكثر من تخفيض لقيمة العملة المحلية ما عزز التكهنات حول استمرار مسلسل الهبوط.
وأصبح تقييم الجنيه المصري وتحديد قيمته الحقيقية هو الشغل الشاغل للحكومة المصرية خلال الفترة المقبلة، بحسب تصريحات سابقة لرئيس الوزراء مصطفى مدبولي، في أعقاب تقارير دولية عن خفض تصنيف مصر الائتماني الشهر الماضي، لأول مرة منذ عام 2013.
آخر تلك التقارير كان تقريرا صادرا عن مصرف "كريدي سويس" السويسري العالمي، الذي قدّم رؤية سلبية لمستقبل أداء الجنيه، وتوقع أن يهبط مجددا بنسبة قد تصل إلى 25% عن السعر الحالي في السوق السوداء، بسبب عدم تحقيق تقدم ملموس في برنامج الإصلاح الاقتصادي، خاصة في ما يتعلق ببرنامج الطروحات الحكومية.
توقع البنك السويسري أن يبلغ سعر صرف الجنيه مقابل الدولار خلال 3 أشهر ما بين 45 و50 جنيها للدولار، وقد يتحسن أداء الجنيه خلال الأشهر الـ12 المقبلة، ليصل إلى 33 أو 34 جنيها للدولار، شريطة قيام الحكومة المصرية بإصلاحات اقتصادية جادة.
وتتلخص تلك الإصلاحات في اعتماد سعر صرف مرن حقيقي للجنيه المصري مقابل العملات الأجنبية، والمضي قدما في خطط طرح حصص في 32 شركة مملوكة للدولة لبناء احتياطي نقدي قوي وسد الفجوة بين السوق الرسمية والموازية.
وخسر الجنيه المصري أكثر من 50% من قيمته وفق الأسعار الرسمية، وأكثر من 75% وفق السوق السوداء، ويبلغ 30.9 جنيها للدولار في البنوك المحلية مقابل 15.70 جنيها قبيل الحرب الروسية الأوكرانية، ونحو 40 جنيها في السوق الموازية.
وبلغ متوسط عمليات الخفض الثلاث التي تمت خلال العام الماضي 15% في كل مرة، ما يعني أن التحرك قد يكون ضمن تلك النسبة بهامش 5% صعودا أو هبوطا، وقد يتراوح سعر الدولار رسميا ما بين 34 و37 جنيها.
"دهورة الجنيه"
يرى أستاذ التمويل والاستثمار بجامعة القاهرة حسن الصادي، أن مطالب المؤسسات المالية الدولية أو توقعاتها بشأن مستقبل الجنيه المصري تتوافق مع مطالب صندوق النقد الدولي بتحرير سعر الصرف، وفقا لقيمة الجنيه في السوق غير الرسمية، وهذا خطأ، لأن هذه السوق لا تعكس قيمة الجنيه، خاصة أن تلك الأموال غير معلومة المصدر، وفق رأيه.
وفي حديثه للجزيرة نت، اعتبر أن مثل تلك التقارير تستهدف النيل من الاقتصاد المصري وليس النيل من العملة المحلية فقط، لأن مثل تلك المطالب رغم تنفيذها أكثر من مرة كانت لها تداعيات قاسية على الحكومة والمواطن المصري دون تأثير إيجابي.
وأكد الصادي أن الجنيه مقوم بأقل من قيمته الحقيقية، ومن حق الدولة الدفاع عن عملتها بحيث لا يؤدي استمرار خفض قيمتها إلى حدوث انفلات في الأسعار، وزيادة معدلات التضخم باستمرار، ومن ثم الوقوع في دائرة خفض الجنيه وزيادة التضخم، وهي دائرة مفرغة سوف تزيد الجنيه هبوطا والتضخم ارتفاعا.
وعلى عكس توقعات المؤسسات المالية الدولية، يعتقد الخبير الاقتصادي، أن "دهورة الجنيه" المصري لن تؤدي إلى تدفق الاستثمار الأجنبي المباشر، لأن المستثمر لن يستطيع احتساب قيمة مصروفاته وأرباحه في ظل تقلب سعر الصرف، ومن ثم فإن استقرار سعر الصرف هو مفتاح جذب الاستثمار.
وقفز التضخم من خانة الآحاد إلى خانة العشرات بعد عمليات خفض الجنيه المتتالية، وأظهرت بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في مصر، وصول التضخم السنوي في أبريل/نيسان الماضي إلى 30.6% مقارنة بـ32.7% في مارس/آذار.
الجنيه.. معركة الحكومة المقبلة
ردا على مثل تلك التقارير الصادرة عن المؤسسات والبنوك الدولية، فإن تقديرات المسؤولين المصريين للجنيه المصري أقل تشاؤما، ودافع رئيس الوزراء المصري عن قيمة العملة المحلية لبلاده، مؤكدا أن "الجنيه المصري مُقدّر بأقل من قيمته".
وأوضح خلال مؤتمر صحفي، منتصف الشهر الماضي، في أعقاب خفض تصنيف مصر الائتماني أن "الجنيه مقوم بأقل من قيمته نتيجة نقص العملة الصعبة، إذ يؤدي هذا إلى المبالغة في تقدير العملة".
في رؤيته لحل أزمة تراجع قيمة الجنيه أمام العملات الصعبة، أكد مدبولي أن "ضخ الاستثمارات سيوفر العملة الصعبة للبلاد، ومن ثم لن تحدث أزمة في الدولار وسيبدأ تقييم الجنيه بقيمته الحقيقية".
بدوره، قال وزير المالية المصري محمد معيط، في تصريحات متلفزة سابقة "كان الحديث أن الجنيه مقدر بأقل من قيمته بنسبة 15%، وذلك عندما كان الدولار يساوي نحو 15.6 جنيها، وفي كل مرة يتم خفض قيمة الجنيه تكرر تلك المؤسسات حديثها بأن الجنيه مقوم بأقل من قيمته وهكذا دواليك، وكأنها عملية مزايدة".
تأثير خفض الجنيه على الديون
وتلقي الحكومة المصرية باللوم على تغير سعر صرف الجنيه أمام الدولار في ارتفاع نسبة الدَّين إلى إجمالي الناتج المحلي هذا العام إلى 95% بدلا من 80%.
وانعكس ذلك بالتبعية على ارتفاع نسبة الفوائد على الديون إلى نحو 37.4% من مصروفات الموازنة المقبلة البالغة نحو 2.9 تريليون جنيه بعد ارتفاع الفوائد إلى تريليون و120 مليار جنيه، (الدولار يساوي 30.9 جنيها).
واعتبر الخبير الاقتصادي إبراهيم نوار أن "تخفيض الجنيه رسميا أو انخفاضه فعليا في السوق هو تعبير عن عجز هيكلي في الاقتصاد لا تصلحه الديون"، مشيرا إلى أن "انخفاض الجنيه يعني ارتفاع التضخم، وارتفاع التضخم يأكل قيمة الجنيه فينخفض، ثم يؤدي الانخفاض الجديد إلى زيادة جديدة في التضخم".
وأكد في منشور له على موقع فيسبوك أن الادعاء بأن الأزمة التي تعيشها مصر هي بسبب الحرب الروسية على أوكرانيا أو جائحة كورونا هو ادعاء كاذب، وقال إن "الحكومة المصرية تربحت من أزمة كورونا، وتربحت وما تزال من الحرب الروسية الأوكرانية".
ورأى نوار أن إرجاء اتخاذ إجراءات جادة في الإصلاحات الهيكلية هو "جريمة في حق هذا البلد لا يقبلها أي وطني عاقل، وكلما تأخرت الإصلاحات الهيكلية، زادت الخسائر وتدهور الوضع".