بضع بقرات سمان، تسر الناظرين، كانت أحشاؤها منتفخة لا بالطعام، ولكن بالنقود المزيفة، حيث تمكّن تجار مواشي من تخبئة آلاف الأوراق النقدية من فئة 200 و100 جنيه بداخلها.
كانت تلك حيلة إحدى عصابات تزوير العملات المزورة مؤخرا لنقلها من إحدى أقاليم الصعيد للقاهرة، وعُدّ سقوطها خبرا عاديا وسط توالى أخبار القبض على عصابات التزوير.
هذه الأوراق ربما كانت ستؤول مثلما آل غيرها، بيد محمود عبد النعيم، وهو صاحب متجر لبيع مستلزمات المحمول بالقاهرة، قال للجزيرة نت، إنه بات في حاجة ملحة لجهاز كشف العملات المزيفة، بعد ما صار من المعتاد أن يكتشف وكلاء مستلزمات ـيبيعهاـ عملات مزيفة بين النقود التي يورّدها إليهم، وهو ما يضعه في حرج شديد، خاصة أن مراجعة الكاميرات لا تسعفه في معرفة من سلّمه العملة المزورة، وربما كان واحدا من الزبائن لم يدرك بأن العملة التي اشترى بها أغراضه مزيفة.
وأفاد صحفي مختص بأخبار الحوادث بإحدى المواقع الإخبارية في مصر كثافة أنباء سقوط مزوري العملة المحلية مؤخرا، وتابع في حديثه للجزيرة نت ـطالبا عدم كشف هُويتهـ بأن "دلالة ذلك تؤشر إلى أن هذا النشاط بات مدرا لربح الخارجين على القانون أكثر من النشاطات الأخرى، ربما يفوق المخدرات نفسها، ما يعني كذلك أن نشاط رجال مباحث الأموال العامة تزايد مع تصاعد نشاطات تلك العصابات".
في التفسير الأمني، يعني تصاعد الاتجاه لتزوير العملة تطور أساليب التزوير، ما يغري المنحرفين باللجوء لهذا النوع من الجرائم، بيد أن محللين اقتصاديين يرون أن الأمر مرتبط من زاوية أخرى بانخفاض السيولة، ما يغري المنحرفين إلى تلبية طلب السوق المتعطش للعملة المحلية بعملات مزورة، مع وجود الأدوات الفنية اللازمة.
انخفاض السيولة
وانخفاض السيولة، برأي هؤلاء المحللين، له أسبابه الواضحة المتصاعدة منذ سنوات عدة، وتتجلى في اتجاه معظم المصريين إلى ضخ أموالهم في شهادات بنكية ذات فائدة مرتفعة، سعيا لامتصاص السيولة من السوق وخفض معدل التضخم، بينما يفضل مدخرون تجميد مدخراتهم على شكل أصول؛ مثل: الذهب أو العقار أو حتى تحويلها لدولار، حرصا على حفظ قيمة أموالهم مع توالي نزول قيمة الجنيه التي تراجعت في السوق الموازية إلى 52 جنيها للدولار، وارتفاع نسبة التضخم لمستوى 39%.
وقدّرت تقارير رسمية عدد الوحدات السكنية المشتراة خلال هذا العام بأكثر من 660 ألف وحدة سكنية، وزادت أسعار العقارات بنسبة 25%، مع توقعات بأن ينمو حجم سوق العقارات السكنية في مصر من 18.04 مليار دولار في 2023 إلى 30.34 مليار دولار بحلول 2028، مدفوعا بطلب متزايد على الوحدات السكنية في المدن الرئيسة في مصر، حسب مركز معلومات مجلس الوزراء.
وكشف تقرير حديث أن مشتريات المصريين من الذهب قفزت بنسبة 46.3% خلال النصف الأول من العام الحالي، لتتجاوز 33.5 طن، مقارنة بنحو 22.9 طن في الفترة نفسها من 2022.
شكاوى التجار
وشكا عضو الغرفة التجارية القليوبية سيد البحيري، وهو تاجر حبوب -أيضا- من أن السوق باتت تعاني من نقص السيولة، مضيفا في حديث للجزيرة "كنت أبيع مثلا في ساعات محدودة نحو نصف طن، حاليا قد يمر أسبوع ولا أستطيع بيع 150 كيلو؛ نتيجة ارتفاع الأسعار بشكل يومي، والنقص الحاد في السيولة".
وأكد صلاح شاهين، وهو تاجر جملة للأدوات الصحية في مصر أن نقص السيولة أنتج انتشار ظاهرة العملات المزيفة، خاصة من فئة 100 و200 جنيه، مشيرا في حديث للجزيرة نت بأن "الأمر ازداد خطورة لدرجة أن بعض محترفي التزييف يعلنون عن نشاطهم من خلال شبكات التواصل الاجتماعي، وانتشرت آلات طباعة النقود في قرى بعينها.
وأوضح الخبير الاقتصادي وائل النحاس أن الرهان على أوعية آمنة للفوائض المالية، "الدولار والعقار والذهب"، أسهم في تبخر الأموال من الأسواق، بما انعكس في أزمة السيولة، مكرسا حالة الركود، مع استمرار ارتفاع أسعار السلع رغم قلة الطلب عليها، ما دفع تجارا لحرق الأسعار والبيع دون هامش ربح، وفاء بالتزاماته.
ودعا وائل النحاس في حديثه للجزيرة نت إلى سياسة جديدة تعمل على مواجهة التضخم والركود، في الوقت نفسه الذي لا تشلّ فيه حركة الأسواق.
شكاوى عديدة لتجار يعرفهم مدرس الاقتصاد بكلية التجارة جامعة الأزهر والخبير الاقتصادي، أحمد ذكر الله، تشير إلى أن البلاد دخلت "أزمة سيولة كبيرة"، بتعبيره، ما دفع بعضهم بدورهم إلى تجميد أموالهم في بضائع وتخزينها، في ظل ما يتردد عن قرب تعويم الجنيه، ما أوقف دورة السيولة.
ويرى الخبير الاقتصادي أن سعي الحكومة المصرية لمواجهة المشكلة متأخر عامين على الأقل، مطالبا في حديث للجزيرة نت بسرعة اتخاذ خطوات في تنفيذ برامج الإصلاح الاقتصادي، بإخراج مؤسسات الدولة من الاقتصاد، والكف عن منافسة القطاع الخاص، ودعم النشاطات الموفرة للعملة الصعبة.
مطالب بإجراءات
بالمقابل يؤكد الخبير الاقتصادي هاني أبو الفتوح أنه لا توجد أزمة سيولة في مصر، ولكن الأمر لا يعدو أن يكون تراجعا في معدلات الشراء والبيع، نتيجة تدني القدرة الشرائية لقطاعات واسعة من المصريين، انعكاسا للأزمة الاقتصادية.
وتابع، تقارير البنك المركزي الأخيرة لا تتحدث عن أزمة سيولة بالمرة رغم الحديث عن ملامسة معدلات التضخم لمستوى 40%.
وشدد المتحدث على أن البنك المركزي متيقظ بشدة لتجنب المعاناة من أزمة السيولة عبر استخدام أدواته، وضخ مليارات الجنيهات في الأسواق، موضحا في حديث للجزيرة نت أن سلوكيات المستهلك مؤخرا، دفعت بعض الناس للحديث عن نقص السيولة.
بيد أن هاني أبو الفتوح لا ينفي ارتفاع معدلات انتشار الأموال المزيفة في الأسواق، إلى حد ظهور مجموعات على شبكات التواصل الاجتماعي، جرى ضبط أحدها، كان أصحابها يعلنون عن تسليم 1000 جنيه مزورة مقابل 300 جنيه صحيحة.
بتفسيره، لا يعود لنقص السيولة، لكن المتحدث يعزوه إلى سهولة امتلاك آلات الطباعة بشكل طبيعي دون قيود، مع الاعتماد على تقنيات عالية في التزييف يصعب ملاحقتها بالوسائل التقليدية، فضلا عن وجود رغبات في تحقيق مكاسب مالية وثراء سريع عبر استغلال الأزمة الاقتصادية، بشكل سهل رغم مخالفة القانون.
ودعا الخبير الاقتصادي لتعزيز الرقابة على الأسواق لمواجهة هذه الظاهرة التي تعدّ -طبقا للقانون- جريمة أموال عامة، وتغليظ العقوبة، مع تقليل الاعتماد على التداول اليدوي، والتوسع في نظام المدفوعات الإلكترونية.