تركت دولة قطر بصمة سياسية واضحة على خارطة المفاوضات ومباحثات السلام، وإيجاد الحلول لأصعب الملفات والخلافات السياسية حول العالم خلال العام 2023، وأصبح العالم على يقين بأن الدوحة باتت قبلة للوساطة والبحث عن حلول لمشاكل معقدة عجزت عن حلها كبريات الدول، بما في ذلك القوى العظمى.
كما أصبح العالم على ثقة تامة بما تقدمه الدوحة من حلول للأطراف المتنازعة، من خلال وساطات معقدة وجهود مضنية أكسبت الجميع الثقة والمصداقية في نتائجها، وتكللت بنجاحات منقطعة النظير دون ضجيج إعلامي ولا تصادم سياسي أو مزاحمة على النفوذ مع أي دولة أخرى، ما جعل الدبلوماسية القطرية علامة فارقة على ساحة السياسة الدولية، ومنهجا يستحق البحث والدراسة في أروقة الدبلوماسية الناجحة.
وعلى مدار عقد من الزمن، انتقلت قطر إلى مرحلة سياسية جديدة مختلفة كلية، لتصبح دولة ذات دور محوري مهم في حل الأزمات العالمية، يشهد العالم بتفوقها على دول متقدمة في حل أصعب الملفات تعقيدا، بل ووقف الصراعات بطرق دبلوماسية مبتكرة وفريدة، لنرى حقبة جديدة من الحلول الدبلوماسية، وكيفية إدارة دور الوسيط الدولي في حل النزاعات والدعوة لوقف الصراعات.
الوساطة القطرية تمتد جذورها عبر سنوات طوال، فقد ساهمت الوساطات القطرية بنزع فتيل أزمات عدة، وتقريب وجهات النظر بين دول متنازعة في شتى أرجاء المعمورة، وتقديم نفسها كصانعة سلام، شملت ملفات وقضايا إقليمية ودولية، حيث أبحرت سفينة الوساطات القطرية عبر الصعاب في أكثر من ملف، عابرة جميع الحدود ومتجاوزة أعقد التحديات في قارات العالم المختلفة.
وينبع هذا السلوك السياسي من تصور مفاده أن الأدوات والوسائل التي تمتلكها الدوحة تكفل لها ممارسة سياسة خارجية حيوية، تهدف لجمع الفرقاء وتقريب المتباعدين، وتؤدي بالضرورة إلى نهايات مقبولة من كل الأطراف، على قاعدة أن يستفيد الجميع دون إقصاء أو خسائر مريرة، إيمانا من دولة قطر بأن أي جهد يساهم بإحلال السلام ويضع السلاح في أي منطقة من العالم، هو ثمرة تستحق الصبر عليها مهما رافقها من صعاب.
حل النزاعات بالطرق السلمية طويل وشاق لكنه أقل كلفة من الحروب
وهذا ما أكده حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير البلاد المفدى، خلال كلمته أمام الدورة 78 للجمعية العامة للأمم المتحدة في التاسع عشر من سبتمبر 2023، والتي أشار فيها سموه إلى أن حل النزاعات بالطرق السلمية طويل وشاق، لكنه أقل كلفة من الحروب، مضيفا أن "علينا ألا ننسى أن هناك شعوبا في العالم تشغلها مآسي الحاضر، ومن واجبنا العمل على رفع الظلم عنها".
وكان العام 2023 شاقا بما حمله من نزاعات وتحديات، وتأتي في الصدارة منها الجهود الكبيرة التي ساهمت بها دولة قطر منذ عدوان الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، وما زالت مستمرة منذ أكثر من شهرين، وأدارت قطر ملف المفاوضات بهدف وقف اعتداءات قوات الاحتلال وخفض التصعيد وحقن الدماء وحماية المدنيين، ونجحت جهودها بإنجاز الهدنة الأولى في الثاني والعشرين من نوفمبر الماضي؛ تمهيدا لتبادل عشرات من الأسرى والمحتجزين، والسماح بدخول عدد من القوافل الإنسانية والمساعدات الإغاثية بما فيها الوقود المخصص للاحتياجات الإنسانية إلى غزة، وثمنت دولة قطر بهذا الصدد الجهود التي بذلتها مصر والولايات المتحدة في دعم جهود الوساطة وصولا إلى الاتفاق.
ورغم أن الهدنة لم تصمد كثيرا وعاودت آلة الحرب الإسرائيلية صب حممها على أهل غزة، فإن دولة قطر واصلت جهودها على أكثر من ساحة؛ تقديرا منها لحجم المعاناة والكوارث التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني في غزة على يد قوات الاحتلال؛ إذ تعمل الوساطة القطرية بشكل متواصل لوقف مستدام للحرب والسعي لإنهاء معاناة أكثر من مليوني فلسطيني محاصرين في القطاع وسط أنباء عن مبادرة جديدة.
ولم تكتف دولة قطر بالعمل ضمن محيطها الإقليمي، بل تعدت ذلك إلى مد حبل جهود الإنقاذ إلى مساحات بعيدة، اعتمادا على تجاوب الأطراف مع خبرتها المتراكمة في تقريب وجهات النظر، ومنها قارة أمريكا اللاتينية، ولا أدل من ذلك على نجاحها الصامت في الوساطة بين الولايات المتحدة الأمريكية وفنزويلا، منذ نحو عامين؛ بهدف إنهاء القطيعة بين البلدين، وقد أعلن سعادة الدكتور محمد بن عبدالعزيز بن صالح الخليفي وزير الدولة بوزارة الخارجية، في الحادي والعشرين من ديسمبر الجاري، أن جمهورية فنزويلا البوليفارية أطلقت سراح 10 سجناء أمريكيين، مقابل إطلاق الولايات المتحدة الأمريكية سراح سجين فنزويلي، بعد عقد عدد من جلسات الوساطة بين الطرفين.
وأكد سعادته أن هذه الخطوة جزء من وساطة أشمل لمعالجة القضايا العالقة بين البلدين، مشددا على أن نجاح هذه الوساطة يؤكد مجددا مكانة دولة قطر كشريك موثوق على المستويين الإقليمي والدولي، كما يعكس دورها الفعال في صناعة السلام وتعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة والعالم.
دبلوماسية الدوحة تنجح في لم شمل أطفال أوكرانيين لدى روسيا
كما نجحت دبلوماسية الدوحة في لم شمل أطفال أوكرانيين لدى روسيا، من خلال عمليتي تبادل وفق آلية تم التوافق عليها مع موسكو وكييف؛ كانت الأولى في السادس عشر من أكتوبر الماضي باستعادة أربعة أطفال، ثم في الخامس من ديسمبر الجاري، وتمت فيها استضافة 6 أطفال وعائلاتهم في مقر سفارة دولة قطر في موسكو، ومن ثم نقلهم إلى وجهاتهم النهائية لضمان سلامتهم وراحتهم، والتأكد من احتياجاتهم، بحسب ما أوضحته وزارة الخارجية القطرية.
وجدد بيان الخارجية القطرية في حينها "تقدير قطر الكامل لحكومتي أوكرانيا وروسيا، على تعاونهما والتزامهما بضمان سلامة وأمن هؤلاء الأطفال، وتقديم الرعاية الملائمة لهم طوال هذه العملية وقبلها".
وعبرت الخارجية القطرية عن شكرها لماريا لفوفا بيلوفا، مفوضة حقوق الطفل لدى رئيس الاتحاد الروسي، ودميترو لوبينيتس مفوض حقوق الإنسان في البرلمان الأوكراني، على تعاونهما في هذا السياق.. مشيرة إلى أن نجاح هذه العملية يعكس موثوقية قطر دوليا لدى مختلف الأطراف، والتزامها الدائم بتعزيز السلام والأمن والاستقرار في المنطقة والعالم، واستعدادها للقيام بدور بناء وفاعل في مختلف الأزمات.
تبادل محتجزين بين الولايات المتحدة وإيران في أغسطس 2023
كما توسطت قطر في اتفاق تبادل محتجزين بين الولايات المتحدة وإيران في أغسطس 2023، وشمل الاتفاق الإفراج عن 5 إيرانيين كانوا محتجزين في الولايات المتحدة، ورفع الحظر عن 6 مليارات دولار من أموال طهران، وحولت الأموال الإيرانية التي كانت مجمدة في كوريا الجنوبية وأودعت في البنوك القطرية، وفي المقابل أفرجت إيران عن 5 سجناء أمريكيين وصلوا إلى الدوحة ونقلوا بعدها إلى الولايات المتحدة.
وقال سعادة الدكتور محمد بن عبدالعزيز بن صالح الخليفي وزير الدولة بوزارة الخارجية: إن وصول خمسة من مواطني الولايات المتحدة الأمريكية كانوا محتجزين في إيران إلى مطار الدوحة الدولي، بعد وساطة قطرية، له دلالة على مكانتها كشريك دولي موثوق به، وأعرب عن الأمل في أن "يفضي التنفيذ الكامل للاتفاق بين واشنطن وطهران لتفاهمات أكبر، تشمل العودة إلى خطة العمل الشاملة المشتركة".
وباتت جهود الوساطة القطرية معروفة للجميع، حيث أثبتت نجاحها في التوصل إلى تسوية للعديد من المنازعات التي تهدد الأمن والاستقرار والسلام في العديد من الحالات. وتتضح قوة الدبلوماسية والحوار جليا من خلال دور قطر كلاعب دولي في حل الصراعات في المنطقة والعالم، واستطاعت دولة قطر منذ العام 2013 إلى يومنا هذا التوسط في أكثر من عشر قضايا إقليمية ودولية رئيسية، بما تملكه من سجل حافل بالنجاحات في مجال الوساطة والتي من بينها السودان، حيث لعبت دورا رائدا في جهود إحلال السلام في السودان، واستضافت محادثات السلام في الدوحة خلال الفترة من عام 2013 إلى عام 2018.
دور كبير لدولة قطر في الجهود الجارية لحل الأزمة السودانية
وكان لدولة قطر دور كبير في الجهود الجارية لحل الأزمة السودانية، ومحاولاتها لوقف الحرب الدائرة حاليا بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، حيث شاركت قطر بشكل مشترك، في رئاسة "مؤتمر تعهدات السودان: الحدث الوزاري لإعلان التعهدات لدعم الاستجابة الإنسانية في السودان والمنطقة"، مع كل من المملكة العربية السعودية، وجمهورية مصر العربية، وجمهورية ألمانيا الاتحادية، ومنظمة الأمم المتحدة، ممثلة بمكتب تنسيق الشؤون الإنسانية "أوتشا"، والاتحاد الأوروبي، والمفوضية السامية لشؤون اللاجئين.
وتعهدت الدولة بخمسين مليون دولار لدعم جهود خطة الاستجابة الإنسانية في السودان، والخطة الإقليمية للاجئين؛ وذلك انطلاقا من مسؤولية قطر الأخوية، وواجبها الأخلاقي والإنساني تجاه الأشقاء في السودان، ومواصلة لجهودها الإنسانية والإنمائية المستمرة في السودان الشقيق.
وأكدت الدولة أنها لن تدخر جهدا في الوقوف بجانب الشعب السوداني الشقيق حتى يتجاوز هذه الأزمة، وأن الموقف الثابت والراسخ لدولة قطر هو دعم وحدة واستقلال وسيادة وسلامة أراضي السودان الشقيق، ورفض أي شكل من أشكال التدخل في شؤونه الداخلية، والاحترام الكامل لخيارات شعبه في الحرية، والسلام والعدالة والازدهار.
ومنذ اندلاع الصراع المسلح الحالي في السودان وما ترتب عليه من أزمة إنسانية، بادرت دولة قطر بالوقوف مع الأشقاء السودانيين، من خلال جسر جوي لإيصال المساعدات، التي شملت الغذاء والدواء والكساء، وبلغت تكلفتها ما يزيد عن 4 ملايين دولار، إضافة إلى إجلاء آلاف الأشخاص، وذلك بجهود عدد من المؤسسات في دولة قطر، مثل: وزارة الدفاع، ووزارة الصحة العامة، وصندوق قطر للتنمية، وقطر الخيرية، والهلال الأحمر القطري.