يعد حقل "غزة مارين" الفلسطيني من أقدم حقول الغاز المكتشفة في المنطقة الشرقية للبحر المتوسط، ويُنظر إليه كفرصة واعدة أمام الفلسطينيين الذين يعانون من شح موارد الطاقة، وسط معاناتهم من الاحتلال الإسرائيلي.
ورغم اكتشاف حقل غزة البحري منذ عام 2000 فإن موارده التي تقدر بأكثر من تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي -وهو ما يفوق بكثير احتياجات الشعب الفلسطيني- لا تزال حبيسة الأرض ولم تستغل تجاريا حتى اللحظة بسبب إعاقة إسرائيل كافة الجهود الرامية إلى إنشاء بنية تحتية طاقية مستقلة للفلسطينيين، كما تحاول وضع يدها على هذه الموارد لتصديرها عبر صفقات مع دول الجوار بمشاركة دول أعضاء في الاتحاد الأوروبي.
إنذار
ومطلع الشهر الجاري، عادت قضية حقل غاز غزة إلى الأضواء عقب الإخطار القانوني الذي وجهه مكتب المحاماة الأميركي "فولي هوغ" -بالنيابة عن منظمات حقوقية فلسطينية- إلى عملاقة الطاقة الإيطالية "إيني" وشركات طاقة عالمية وإسرائيلية أخرى.
وأنذرها المكتب بعدم المضي قدما في أنشطة التنقيب ببئر غزة البحري العائدة ملكيته إلى الشعب الفلسطيني وفق أحكام اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لعام 1982 التي وقعت عليها دولة فلسطين سنة 2019.
ويأتي هذا الإنذار بعد إعلان إسرائيل في 29 أكتوبر الماضي عن منح الترخيص لشركة الطاقة الإيطالية للعمل في حقل غزة، مما اعتبرته منظمات حقوق الإنسان الفلسطينية انتهاكا للقانون الدولي.
ويرى مدير مركز الدراسات القانونية الدولية فابيو مارشيللي في حديث للجزيرة نت أن تعاقد "إيني" مع إسرائيل يعد انتهاكا للقانون الدولي الذي يحظر على سلطة الاحتلال التصرف بالموارد الطبيعية الموجودة في الأراضي التي تحتلها، بما فيها المناطق البحرية المجاورة.
وحذر مارشيللي من أن مجرد شروع الشركة في أنشطة التنقيب لاستغلال الموارد التي تعود ملكيتها إلى الفلسطينيين سيجعلها شريكة لدولة إسرائيل المثقلة الآن باتهامات دقيقة وموثقة بارتكاب الإبادة الجماعية أمام محكمة العدل الدولية.
ولفت المتحدث نفسه إلى أن "تواطؤ إيني" -التي تعتبر شركة عامة- في مثل هذه الجرائم سيمتد إلى حكومة جورجيا ميلوني التي تعمل على تزويد إسرائيل بجزء من الأسلحة التي تستخدمها في تنفيذ الإبادة الجماعية في قطاع غزة.
من جانبها، أوضحت شركة "إيني" -في بيان حصري للجزيرة نت- أنها "حصلت -إلى جانب شركات أخرى- على تراخيص التنقيب بناء على مناقصة دولية، وأنه تم منح التراخيص المتعلقة بأنشطة التنقيب المرتقبة في أكتوبر/تشرين الأول 2023".
وأكدت الشركة أنه "لم يتم التوقيع بعد على أي اتفاق بالخصوص، وأنه لا يوجد لديها حاليا أي نشاط في المنطقة، وأنها أينما تعمل تحرص على توافق أنشطتها مع القانون الدولي وأفضل ممارسات السلامة".
تهرُّب
ومع استمرار العدوان الإسرائيلي على غزة بات الأمر محرجا، ليس فقط لشركة "إيني"، بل للحكومة الإيطالية نفسها التي تعد المساهم الأكبر في الشركة بنسبة 32%.
وتجلى ذلك في ردود وزير الخارجية الإيطالي أنطونيو تاياني -الأربعاء الماضي- خلال المساءلة البرلمانية حينما حاول التهرب من مسؤولية الحكومة في هذه القضية، مؤكدا أن الشركة الموجودة في منطقة البحر المتوسط بأكملها مدرجة في البورصة وتعمل وفق قواعد السوق.
وحاول تاياني التقليل من أهمية الاتفاق، مشيرا إلى تأكيد "إيني" أن العقد لا يزال قيد الإعداد، وأنه لا توجد أي عمليات تنقيب جارية حتى الآن في المنطقة المعنية.
كما حاول التخفيف من حدة الضغوطات الممارسة على الشركة الإيطالية، لافتا إلى أهمية التوفيق بين المصالح الاقتصادية والتطلعات المشروعة للشعوب، ومشددا على ضرورة تحديد الحدود والمناطق البحرية وفق قواعد يمليها القانون الدولي.
وأضاف المسؤول الحكومي "نحن أمام قضية تضارب مصالح، وأن الحل الأمثل هو طريق الوساطة والحوار وإيجاد الحلول عبر التفاوض على غرار الاتفاق الذي توصل إليه لبنان وإسرائيل في أكتوبر 2022 بشأن ترسيم الحدود البحرية بينهما".
وفي حديث خاص مع الجزيرة نت، استهجن أنجيلو بونيلي الناطق الرسمي لأوروبا الخضراء والنائب عن تحالف الخضر واليسار تصريحات تاياني، ووصفها بغير المقبولة.
وأكد بونيلي -الذي استجوب وزير الخارجية تحت قبة البرلمان بشأن القضية- عدم أحقية إسرائيل -وفق المادة 55 من معاهدة لاهاي– في استخدام الموارد الطبيعية الفلسطينية لتحقيق مكاسب اقتصادية خاصة بها.
وقال "نعلم جيدا أن قضية الطاقة تعتبر مهمة جدا لبلدنا، لكن هناك أيضا أخلاق وقيم سامية تقودنا إلى القول إنه في الوقت الذي يُقتل فيه اليوم أكثر من 30 ألف مدني فلسطيني هناك من يحاول سرقة مواردهم لتحقيق أرباح خاصة به".
وفي رده على سؤال الجزيرة نت بشأن ماهية المبادرات التي ينوي اتخاذها خلال الفترة القادمة كشف النائب الإيطالي عن اعتزام حزبه الترافع أمام محكمة العدل الأوروبية ضد شركة "إيني" في قضية دولية.
تكتم
من جانبه، وصف الصحفي ألبيرتو نيغري -في حوار مع الجزيرة نت- تصريحات تاياني بـ"السخيفة"، وأنها "محاولة يائسة للتسلق على لوح زجاج".
وقال إن حديث الوزير عن عدم وجود أي أنشطة بعد لاستغلال الموارد الطبيعية الفلسطينية يعود إلى أن مرحلة التنقيب لم تبدأ ويجب أن تكتمل.
وأوضح نيغري للجزيرة نت "لم تتحدث "إيني" قطعا في الماضي ولا حتى الحكومة الإيطالية عن إبرام اتفاق مع إسرائيل لاستغلال حقل غاز غزة، ولولا الإنذار الذي وصل في الأيام القليلة الماضية إلى الشركة لبقيت هذه الواقعة مغيبة أمام الرأي العام الإيطالي".
وفسّر محاولة تكتم "إيني" والحكومة الإيطالية على الاتفاقية بأن الحرب وارتكاب المجازر الإسرائيلية بحق الفلسطينيين كانا قد بدآ بالفعل، وبالتالي كان يتعين عليهما الإعلان عن تعليقهما كحد أدنى.
وأضاف نيغري أن "حديث وزير خارجيتنا عن تضارب المصالح وتفضيل طريق الوساطة والحوار في مثل هذه الحالات ليس سوى ذر للرماد في العيون، لأن "إيني" لم تتفاوض مع الفلسطينيين، بل مع الحكومة الإسرائيلية فقط رغم أن حقل "غزة مارين" تم اكتشافه منذ عام 2000 ولم يستطع الفلسطينيون استخراج الغاز منه حتى الآن بسبب الحصار المطبق الذي تفرضه إسرائيل على قطاع غزة منذ عام 2007″.