دعوات دولية عديدة حثت إسرائيل على تهدئة حربها على الفلسطينيين خلال رمضان، لكن يبدو أن الشهر المبارك لم يشفع لهم، بل ازداد الأمر قتلا وتنكيلا، حتى بوتيرة أعلى من أسابيع مضت خلال الحرب.
وإزاء ذلك، لم تتعدِ المواقف الدولية إطار الإدانة والاستنكار وضرورة التهدئة، وغيرها من التعبيرات التي لم توقف مأساة غير مسبوقة في قطاع غزة، واعتداءات يومية في الضفة الغربية ومخيماتها منذ 7 أكتوبر 2024.
فمنذ اليوم الأول لشهر رمضان، وحتى صباح الخميس، بلغ عدد القتلى في غزة نحو 743 و1292 جريحا، من خلال 75 مجزرة، وفق ما رصدته الأناضول من إعلانات رسمية لوزارة الصحة في القطاع.
إسرائيل لم تكتف في القطاع بعمليات القصف التي اعتاد أهل غزة عليها منذ 167 يوماً، بل تعدى الأمر إلى استهداف تجمعات توزيع المساعدات واغتيال كل من يساهم في تيسيرها، كما حصل بمنطقة دوار الكويتي، وإعدام النازحين في المشافي كما حدث بمجمع الشفاء الطبي.
على الجهة الأخرى، لم تسع تل أبيب إلى تهدئة جبهة الضفة، بل واصلت عمليات القتل والتنكيل والاعتقالات والاقتحامات اليومية، مستغلةً صمت العالم.
ولا يكاد يمر يوم منذ بدء رمضان ولا يقع فيه اقتحام لأحد المخيمات وقتل واعتقال عدة أشخاص وتدمير البنية التحتية بالمكان كما يحدث في مخيمي جنين ونور شمس.
ويرجع مراقبون هذه السياسة الإسرائيلية إلى الدعم الأمريكي وضعف المجتمع الدولي، فالولايات المتحدة تترك الميدان إلى إسرائيل ترتكب فيه ما يحلو لها من جرائم مكتفية بدعوات واجتماعات بلا جدوى تضيع بها الوقت وتخدع العالم بأن شيئا يحدث.
لدرجة أن متحدث الخارجية الأمريكية فيدانت باتيل وصل به الأمر إلى زعم أنه "لا أدلة على استخدام إسرائيل التجويع سلاحا في غزة"، رغم كل الإدانات والتأكيدات الدولية التي تثبت عكس ذلك.
تضليل أمريكي
وتعليقا على المشهد، رأى الصحفي والباحث محمد عابد، أنه يجب علينا في البداية أن نحدد الجهة التي أظهرت القدر الأكبر من الاهتمام بموضوع التهدئة خلال شهر رمضان.
وأضاف أن الأمريكيين والإسرائيليين هم من أرادوا وقف إطلاق النار مؤقتا، ووجدوا في رمضان فرصة لتبرير هذا التوجه، سواء بحجة وجود مخاوف أمنية أو بحجة الاهتمام بالواقع الإنساني في غزة.
لكن في حقيقة الأمر، كل ما دار عنه الحديث أمريكياً عن إمكانية تفجر الأمور حال استمرار العدوان على غزة خلال رمضان جاء في سياق التضليل، وفق عابد.
ومضى يقول: "الجميع يعلم أن شيئاً لم يكن ليحدث على مستوى التفاعل العربي والإسلامي بعد كل ما حدث من جرائم مرّت مرور الكرام".
وتابع: "يبدو كذلك أن واشنطن كانت ترجو أن يتسبب ذلك التضخيم في مُفاقمة مخاوف الفلسطينيين وزيادة الضغط على حماس ودفعها نحو تقديم تنازلات".
وأوضح أن "ما تريده الولايات المتحدة منذ شهرين على الأقل هو إنهاء الحرب ولكن مع احتفاظ إسرائيل بسلطة ما على الأرض في غزة أيًّا كان شكلها أو حجمها، وتثبيت قواعد اشتباك جديدة تمنح الاحتلال القدرة على استنزاف فصائل المقاومة على المدى المتوسط أو إعادة القطاع على مربع الحرب متى أرادت".
واعتبر أن "ما يفعله الإسرائيليون حاليا في غزة هو إجراء توغلات من وقت لآخر انطلاقاً من مواقع السيطرة الأساسية في وسط القطاع وخانيونس، لتثبيت حالة أن غزة كلها مستباحة، ولضمان عرقلة مساعي فصائل المقاومة المؤكدة لترتيب صفوفها، وإفشال مساعي الأجهزة الأمنية الفلسطينية والمجتمع المحلي لترميم الوضع الأمني والإداري في شمال القطاع تحديدا".
وبين عابد أن "الاحتلال في حقيقة الأمر مُفلس حالياً ويقوم برد فعل على السلوك الفلسطيني، وليست لديه أي أهداف استراتيجية في غزة سوى الانتقام والإرهاب، وهو ما نراه في قتل الجياع كل يوم".
أما على مستوى الضفة الغربية، قال عابد : "أرى بأن التصعيد في شهر رمضان محدود، وسيبقى كذلك حتى لو ارتفعت وتيرة عمليات فصائل المقاومة في فترة ما أو ازدادت وتيرة العمليات الإسرائيلية".
وأرجع ذلك إلى أن "واقع الضفة معقد جداً لدرجة أن الحسابات الإسرائيلية هناك تختلف من منطقة لأخرى، وخاصة بين المدن والقرى والمُخيمات".
ويعتقد عابد أن التصعيد الأخير بالضفة ما زال في نطاق "العمليات الجراحية المركزة"، مشيراً إلى أن "الاحتلال لن يخاطر بتوحيد الساحات الفلسطينية أو التأثير سلباً على ما راكمه من نجاحات خلال العقدين الماضيين، على مستوى الفصل التام بين واقع الضفة وواقع غزة".
استراتيجية العمليات المحددة
وفي نفس السياق، أرجع المحلل الاستراتيجي عامر السبايلة، الهجمات الراهنة إلى انتقال إسرائيل من عملية الحرب المفتوحة الشاملة في غزة، إلى إستراتيجية العمليات المحددة ذات الطابع الاستخباري، في إشارة إلى العملية المتواصلة في مستشفى الشفاء.
وقال للأناضول: إسرائيل توجهت إلى ذلك لتخفيف الضغط الدولي في موضوع الحرب، والتوافق مع تغير الأولويات في ظل مباحثات وقف إطلاق النار الجارية، إضافة إلى بدء السماح بدخول المساعدات الإنسانية عبر طرق متعددة، منها الممر البحري على ساحل غزة الذي ستشرف عليه.
ورأى أن ذلك "يعطي انطباعا لحلفاء إسرائيل أن لديها مساحة لتقديم حلول عملية لمرحلة ما بعد الحرب؛ وذلك عبر إبقاء سطوتها الأمنية على القطاع، والقيام بعمليات تستهدف أهداف محددة، للقضاء على ما يظهر من فصائل المقاومة، وهو أمر تتفق معه الولايات المتحدة".
ومضى السبايلة يقول: هناك فرصة لإسرائيل لتأجيل مرحلة رفح في ظل تلك العمليات الممنهجة، وقد أثبتت عملية اقتحام مجمع الشفاء ذلك، حيث لم تقتصر العملية على جيش الدفاع، بل شارك فيها الشاباك أيضا".
ويُصر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على تنفيذ اجتياح بري لرفح؛ بزعم أنه ضروري للقضاء على ما تبقى من حركة "حماس".
ومنذ أسابيع، تتصاعد تحذيرات إقليمية ودولية من تداعيات الاجتياح المحتمل؛ في ظل وجود نحو 1.4 مليون نازح بالمدينة، دفعهم الجيش الإسرائيلي إليها بزعم أنها آمنة ثم شن عليها لاحقا غارات أسفرت عن قتلى وجرحى.
ولفت السبايلة إلى أن عمليات إسرائيل المحددة في غزة ستسير على نفس النهج في الضفة الغربية، وربما تتقدم أيضا نحو جبهة جنوب لبنان، لأن هذه الطريقة "ستوفر القتل الإسرائيلي في نطاق محدد بما يضمن عدم الاعتراض من أي جهة دولية".