لطالما اعتُبرت مصارعة الثيران أو "لا كوريدا تي توروس"، تقليداً ثقافياً تعرف به إسبانيا، البلد الأوروبي المشمس الذي يتمسك بتقاليده "المختلفة" عن إخوانه الأوروبيين.
إلا أنّ وزارة الثقافة في البلاد، ألغت الجمعة، المسابقة الوطنية لمصارعة الثيران، وهي مناسبة سنوية يحصل الفائز فيها على شيك حكومي بقيمة 30 ألف يورو (32 ألف و217 دولاراً).
أثار القرار انتقادات من المحافظين المؤيدين للتقليد ويعتبرونه فناً وهويّة وطنية، فيما حظي بترحيب من اليساريين الذين يعتقدون أن المصارعة تقليد عفا عليه الزمن.
ويرى المعارضون للتقليد، أنه مشبع بالعنف، إذ تنتهي المصارعة بمقتل الثور، بعدما ينجح المُصارع (أو الماتادور) الذي يرتدي ألوناً زاهية، بطعنه بسيف طويل في ظهره، مستهدفاً شريانه الأبهر أو رئتيه.
وقالت وزارة الثقافة إنها استندت في قرارها بإلغاء الجائزة إلى "الواقع الاجتماعي والثقافي الجديد في إسبانيا"، مع تزايد المخاوف بشأن حقوق الحيوان، وانخفاض نسبة الجمهور في معظم حلبات مصارعة الثيران.
قال وزير الثقافة، إرنست أورتاسون، على منصة أكس (تويتر سابقاً): "أعتقد أن هذا هو الشعور السائد لدى غالبية الإسبان الذين أصبحوا أكثر عجزاً عن فهم سبب ممارسة التعذيب للحيوانات في بلادنا... ولماذا تُمنح جائزة مالية كمقابل عن هذا التعذيب، باستخدام الأموال العامة؟"
تاريخ مصارعة الثيران
لا يمكن تحديد تاريخ دقيق لبدء تقليد مصارعة الثيران. ويقول بعض المؤرخين إن مصارعة الثيران نشأت في إسبانيا خلال الحكم الإسلامي (في الأندلس)، فيما يتحدّث آخرون عن عبادة الثيران في بلاد ما بين النهرين القديمة، أو طقوس تتضمن مراوغة الثيران في إسبانيا خلال العصور الوسطى.
وتغيّر شكل اللعبة على مر السنين، ويعتقد أن أول مُصارِعين احترفا اللعبة في شكلها الحالي، كانا خواكين رودريغيز كوستياريس (ولد في إشبيلية عام 1729) وبيدرو روميرو (ولد في روندا في الأندلس عام 1754).
ويقال إن روميرو، قتل 5 آلاف و600 ثور خلال مسيرته التي استمرت 28 عاماً.
أمّا التقنيات المستخدمة من قبل المصارعين في يومنا هذا، فتعود إلى بداية القرن العشرين، عندما أحدث الماتادور الإسباني خوان بيلمونت ثورة في المشهد.
قبل بيلمونت، كانت مهارة الماتادور تُقاس بتحقيق الهدف الرئيسي من اللعبة، وهو إعداد الثور، عبر إثارة غضبه، لضربة السيف القاتلة.
ولكن بيلمونت، وهو من الأندلس، وامتدت حياته المهنية من عام 1910 إلى عام 1935، أرسى تقاليد جديدة، عبر إطالة مدّة المصارعة في الحلبة.
ومن بعده، صارت مهارة الماتادور تُقاس بقدرته على مدّ مرحلة مراوغة الثور، وإثارة غضبه لأطول فترة ممكنة بالقماشة الحمراء، وإبراز مهارته بالتحكّم بالحيوان، والسيطرة عليه، قبل الضربة القاتلة.
والجدير بالذكر أن اللعبة تمارس أيضاً في بلدان أخرى، مع تغييرات بسيطة في القواعد والشكل، أبرزها البرتغال وجنوب فرنسا والمكسيك وبلدان أخرى في أمريكا اللاتينية، إلا أنها تبقى مرتبطة بإسبانيا بشكل وثيق وتعتبر "رمزاً وطنياً" لها.
ولم تسفر المصارعة عن تعذيب آلاف الثيران على مرّ السنين، إلا أنها تسببت أيضاً بمقتل مئات المصارعين.
ويقول ألكسندر فيسك-هاريسون، في كتابه التوثيقي عن مصارعة الثيران في إسبانيا، إن السجلات الرسمية تظهر أن 533 من مصارعي الثيران المحترفين قتلوا في إسبانيا منذ عام 1700، حتى إصدار الكتاب عام 2011. وقد لا تكون السجلات كاملة، كما يقول الكاتب.
ويعتقد أن إيفان فاندينيو، كان آخر ماتادور إسباني يقتل في مباراة، إذ توفي في يونيو من العام 2017، متأثراً بجراحه التي أصيب بها بعد أن نطحه ثور خلال مباراة كان يقيمها في فرنسا.
ورقة سياسية
دخلت مصارعة الثيران حلبة الصراع السياسي في إسبانيا خلال العقد الماضي، وانقسم الشارع بشكل واضح منذ العام 2018 إلى قسمين: الأحزاب اليمينية المناصرة لمصارعة الثيران، والأحزاب اليسارية المطالبة بإلغائها.
ويتألف اليمين في البلاد بشكل رئيسي من "الحزب الشعبي" و"حزب فوكس"، ويعتبر أن مصارعة الثيران جزء رئيسي من الثقافة الإسبانية التي يحميها القانون.
أما اليسار الذي بتألف بشكل رئيسي من "الحزب الاشتراكي" و"حزب بوديموس"، فيعارض اللعبة، ويعتقد أن وحشيتها لا مكان لها في إسبانيا الحديثة.
كذلك يعارض الإنفصاليون الكاتالونيون مصارعة الثيران.
وعملت الجهات المعارضة للمصارعة على مدى سنوات، مع جمعيات حقوق الحيوان، بهدف حظرها.
وفي العام 2010، أصبحت كاتالونيا ثاني منطقة إسبانية تحظر مصارعة الثيران، بعد جزر الكاناري عام 1991.
وكانت حكومة إسبانيا المحافظة برئاسة ماريانو راخوي، قد أقرّت عام 2013، قانوناً دافع عن رياضة مصارعة الثيران بوصفها جزءاً من التراث الثقافي للبلاد، وجاء فيه أنه من واجب الدولة "الحفاظ عليها وتشجيعها".
واستشهدت المحكمة الدستورية الإسبانية بهذا التشريع في عام 2016، عندما ألغت الحظر الكاتالوني على مصارعة الثيران.
جدل أخلاقي
لا يعتبر الجدل حول أخلاقية مصارعة الثيران جديداً، لكن النقاش حولها تعاظم خلال السنوات الأخيرة، مع إطلاق جمعيات حقوق الحيوان حملات توعية حول "عدم أخلاقية فكرة قتل وسفك دماء أي حيوان بهدف التسلية أو باسم الثقافة والفن".
إوفي القرون الماضية، هاجم رجال الدين المسيحيين مصارعة الثيران، وذلك لأنها "تشتت انتباه الجمهور بعيداً عن الكنيسة والصلاة".
كما أن العديد من المراقبين، من باباوات عصر النهضة وملوك آل بوربون، اعتبروا مصارعة الثيران "عملاً همجياً، وانحرافاً عن المبدأ المسيحي المتمثل في رعاية الحيوانات"، بحسب موسوعة بريتانيكا.
وألقى آخرون اللوم في انتشار مصارعة الثيران على طبقة النخبة، التي كانت تقيم عروض المصارعة تاريخياً لإحياء حفلات الزفاف الملكية أو الاحتفال بنيل طلاب لشهادة الدكتوراه.
بالنسبة للعديد من المثقفين والفنانين والشعراء والأدباء الإسبان، كانت مصارعة الثيران بمثابة "نافذة إلى روح إسبانيا وشعبها".
كذلك يُنظر إلى التمسّك بهذا التقليد، على أنه تذكير بما يسمى المشكلة الإسبانية، وتعني "نبذ إسبانيا المزعوم لعصر التنوير والعالم الحديث، ورفضها لأن تُصبغ بطابع أوروبي، ما يضر بمكانة البلاد أمام في الرأي العام العالمي والأوروبي" بحسب موسوعة "بريتانيكا".
مع العلم أنّ الاتحاد الأوروبي صنّف مصارعة الثيران كنشاط محمي تحت عنوان "الثقافة الوطنية"، بحسب الموسوعة.
لم تغب مصارعة الثيران - ويطلق عليها أيضاً عبارة "الرقص مع الموت" - عن تمثيل إسبانيا في الآداب والفنون وفي مناسبات أخرى أيضاً على مدى عقود.
وفي مجال الرقص، تعتمد رقصة "الباسو دوبلي" التي يعتقد أنها بدأت في إسبانيا عام 1780، على الحركات التي يتبعها "الماتادور" (مصارع الثيران) خلال عرضه.
إلا أن بعض الروايات تقول إن موسيقى الباسو دوبلي ظهرت للمرة الأولى في العروض العسكرية للجيش الإسباني أو الفرنسي، ثم تبنّتها مصارعة الثيران.
ويتم تشغيل موسيقى الباسو دوبلي في العرض التمهيدي لدخول مصارع الثيران الحلبة.
وفي مجال الرسم، كان الإسباني فرانسيسكو دي غويا، أول رسام كبير يسجل مشهد حلبة مصارعة الثيران بجميع جوانبها من خلال سلسلة "لا توروماكيا" (1815–1816) والتي تعطي فكرة واضحة عن كيف كانت تبدو مصارعة الثيران في أوائل القرن التاسع عشر.
ولا يمكن إلا نذكر لوحة "غيرنيكا" (1937) للإسباني الآخر، بابلو بيكاسو، والتي تتضمّن بدورها ثوراً، وتمثل مأساة الحرب ومعاناة الإسبان خلال الحرب الأهلية الإسبانية. ويعتقد أن بيكاسو استخدم الثور في اللوحة كرمز للمأساة والمعاناة، انطلاقاً من حلبة المصارعة.
وعلى صعيد الأدب، قد تكون "دم ورمال" (1922)، أشهر رواية كتبت عن مصارعة الثيران للكاتب الإسباني فيسينتي بلاسكو إيبانييز والتي نقلت لاحقاً إلى السينما، مرات عدة، على مدى السنين.
وكان فيديريكو غارثيا لوركا، قد كتب قصيدة رثاء لصديقه المقرب إغناسيو سانشيز ميخياس، الذي كان كاتباً ومصارع ثيران، قتل داخل حلبة المصارعة عام 1934.
وعلى صعيد الأفلام، تناولت أفلام هوليوودية كثيرة مصارعة الثيران للدلالة على إسبانيا. وعلى الصعيد المحلي، تناول الكاتب والمخرج الإسباني الشهير بيدرو ألمودوفار مصارعة الثيران في فيلمه "ماتادور" (1986)، من وجهة نظر نقدية.
وفي الموسيقى، كان يتم تسجيل مقطوعات موسيقية وأغنيات خاصة لحلبات مصارعة الثيران، إلا أن أغنية باللغة الفرنسية للمغني الفرنسي فرانسيس كابريل، كانت لافتة عند إطلاقها عام 1994، إذ تبنى المغني في أغنيته وجهة نظر الثور وتحدث بلسانه، قائلاً إنه "لم ير في حياته أشخاصاً فرحين لهذا الحد حول جثة".
وبالعودة إلى الفنانين الإسبان والرموز، استخدمت أشهر فنانة إسبانية في العالم، روساليا، في الفيديو المصور للأغنية التي شهرتها خارج بلادها، "مالامينتيه"(2018)، رمزية مصارعة الثيران للتعريف عن هويتها، مستبدلةً الثور بدراجة نارية تستقلها بينما يوجهها "الماتادور" نحو القطعة الحمراء التي يمسك بها.
وفي عالم كرة القدم في إسبانيا، يستخدم تعبير "ماتادور" وهي كلمة تعني في الأصل "الرجل القاتل"، للتعبير عن مدى حرفية اللاعب وقدرته على "قتل" خصمه في المعنى المجازي للكلمة.
وذهب كل من راوول غونزاليس وسيرخيو راموس، لاعبي ريال مدريد السابقين، مرات عدة، إلى حد استخدام قطعة قماش أرجوانية للاحتفال على طريقة مصارعي الثيران، مع مشاركة الجماهير على المدرجات بالاستعراض "التقليدي" عبر الهتاف.