شهدت الأزمة السياسية في السودان انفراجة في الـ21 من نوفمبر الجاري، بعد الإعلان عن توقيع اتفاق سياسي جديد بين الفريق أول ركن عبدالفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة الانتقالي، والسيد عبدالله حمدوك رئيس مجلس الوزراء، نص على إلغاء القرار الخاص بإعفاء حمدوك من منصبه.
وشهد السودان أزمة سياسية حادة، بلغت ذروتها بإعلان الفريق أول ركن عبدالفتاح البرهان يوم 25 أكتوبر الماضي حالة الطوارئ في البلاد، وحل مجلسي السيادة والوزراء وتشكيل مجلس سيادة جديد.
احتقان سياسي وشعبي
وأدت تلك الخطوة، إلى احتقان سياسي وشعبي، وضغوط محلية وإقليمية ودولية استمرت قرابة شهر، وشهدت البلاد مسيرات واحتجاجات، كما تحركت وساطات ومبادرات داخلية وخارجية متعددة، أدت في النهاية إلى الإعلان عن الاتفاق السياسي بين رئيس مجلس السيادة الانتقالي ورئيس مجلس الوزراء، يوم 21 نوفمبر في الخرطوم.
ويمثل الاتفاق السياسي بين البرهان وحمدوك، بداية دخول البلاد مرحلة سياسية جديدة،ونص الاتفاق الجديد على أن الوثيقة الدستورية لسنة 2019، تعديل 2020، هي المرجعية الأساسية القائمة لاستكمال الفترة الانتقالية، مع مراعاة الوضعية الخاصة بشرق السودان والعمل سويا على معالجتها في إطار قومي يضمن الاستقرار بصورة ترضي أهل الشرق، مع التأكيد على ضرورة تعديل الوثيقة الدستورية - بالتوافق - بما يحقق ويضمن مشاركة سياسية شاملة لكافة مكونات المجتمع "عدا حزب المؤتمر الوطني المحلول".
كما أكد الطرفان أن الشراكة الانتقالية القائمة بين المدنيين والعسكريين هي الضامن والسبيل لاستقرار وأمن السودان، وبناء على ذلك تم الاتفاق على إنفاذ الشراكة بروح وثقة مع الالتزام التام بتكوين حكومة مدنية من الكفاءات الوطنية المستقلة (تكنوقراط)، وأن يكون مجلس السيادة الانتقالي مشرفا على تنفيذ مهام الفترة الانتقالية الواردة بالمادة (8) من الوثيقة الدستورية دون التدخل المباشر في العمل التنفيذي.
كما نص الاتفاق على ضمان انتقال السلطة "الانتقالية" في موعدها المحدد في نهاية الفترة الانتقالية في يوليو 2023، على أن تكون إدارة الفترة الانتقالية بموجب إعلان سياسي يحدد إطار الشراكة بين القوى الوطنية.
ونص الاتفاق أيضا على تنفيذ اتفاق سلام جوبا واستكمال الاستحقاقات الناشئة بموجبه، وإلحاق غير الموقعين على اتفاق السلام.
حقن الدماء
ووصف الفريق أول عبدالفتاح البرهان الاتفاق السياسي، الذي تم توقيعه، بأنه "واحد من خطوط الدفاع عن الثورة السودانية المجيدة"، وأنه يؤسس لفترة انتقالية في البلاد، موضحًا أن التنازلات التي تمت كانت من أجل حقن الدماء وتحقيق آمال وتطلعات الشعب السوداني.. مشددا على ضرورة التوافق على استكمال الفترة الانتقالية.
كما لفت إلى أن انسداد الأفق السياسي في البلاد وعدم التوصل لحلول، حتم ضرورة التوقف في مسيرة الانتقال وإعادة النظر في ما تم وما سيتم في المستقبل.
من جانبه، قال السيد عبدالله حمدوك رئيس الوزراء الانتقالي، إن توقيع الاتفاق السياسي يفتح الباب واسعا على كل قضايا الانتقال، مضيفًا أن هناك تحديات كبيرة تواجه الواقع السياسي، موضحا أن الاتفاق تم بناء على نقاط محددة تتمثل في حقن دماء السودانيين، ويتيح إمكانية المحافظة على مكتسبات العامين الماضيين، كما أنه يحصن التحول المدني الديمقراطي عبر توسيع قاعدة الانتقال.
وأشار حمدوك إلى أن "هذا الإنجاز تم نتيجة لعمل واسع خلال الأسابيع الماضية"، مؤكدا استعداده للمضي قدما من أجل الدفع بعملية التحول الديمقراطي للأمام.
وقال إن الاتفاق يفتح الباب واسعا لمعالجة كل قضايا الانتقال وتحدياته والمحافظة علي الإنجازات التي تمت خلال السنتين الماضيتين، وفي مقدمتها فك العزلة الدولية والخروج من قائمة الدول الراعية للإرهاب ونجاحات الاقتصاد والسلام، وفك الاختناق الداخلي والخارجي واستعادة مسار الانتقال لتحقيق ديمقراطية مستدامة.
وأضاف حمدوك أن طريق الانتقال صعب ومحفوف بالمخاطر، التي تحتاج للإرادة والعمل المشترك لتجاوزها.. داعيا لوحد الصف ومراعاة مصلحة الوطن والتوافق على كيفية حكم البلاد وترك خيار من يحكم السودان للشعب.
بنود الاتفاق السياسي
وشملت أبرز بنود الاتفاق السياسي الجديد، التأكيد على ضرورة إعادة هيكلة لجنة تفكيك نظام الثلاثين من يونيو (نظام الرئيس السابق عمر حسن البشير) مع مراجعة أدائها في الفترة السابقة، وتفعيل لجنة الاستئنافات ومراجعة قراراتها وفقا لدرجات التقاضي المقررة قانونا، والتحقيق في الأحداث التي جرت أثناء المظاهرات التي شهدتها البلاد من إصابات ووفيات للمدنيين والعسكريين وتقديم الجناة للمحاكمة.
وفيما يتعلق بالمؤسسة العسكرية، فتم الاتفاق على العمل على بناء جيش قومي موحد، وتعزيز الوحدة والالتزام بالسلمية.
وأشار الاتفاق إلى أن الطرفين، رئيس مجلس السيادة الانتقالي ورئيس مجلس الوزراء، تعهدا بالعمل سويا لاستكمال مسار التصحيح الديمقراطي بما يخدم مصلحة السودان العليا، وتجنبا لانزلاق البلاد نحو المجهول وانفراط عقد الأمن وضرورة إكمال الفترة الانتقالية ونجاحها وصولا لحكومة مدنية منتخبة، وهو ما لا يتم إلا عبر وحدة القوى السياسية وقوى الثورة ولجان المقاومة والرحل والنازحين واللاجئين السودانيين، للخروج بالبلاد من الأزمة السياسية الحالية.
وتم التوصل للاتفاق السياسي في السودان، بعد مساع محلية وإقليمية ودولية مكثفة، حيث شهدت الخرطوم خلال الأسابيع الثلاثة الماضية العديد من اللقاءات التي عقدتها أطراف دولية ومحلية مع كل من القائد العام للقوات المسلحة ورئيس الوزراء وجميع أطياف القوى السياسية الفاعلة في البلاد، إلى جانب ضغط شعبي كبير تمثل في مسيرات حاشدة سيرها تجمع المهنيين السودانيين وأخرى دعت لها قوى إعلان الحرية والتغيير، وهي مسيرات رافضة للقرارات التي أصدرها الفريق أول عبدالفتاح البرهان، وتدعو لإرجاع الحكومة المدنية.
كما مارست الولايات المتحدة الأمريكية ودول الترويكا والاتحاد الأوروبي ضغوطا لإعادة الحكومة السياسية، وحل الأزمة في البلاد، مهددة بإعادة فرض العقوبات على السودان وإيقاف المنح والمساعدات.. وتبعت ذلك مواقف مماثلة من المجتمع الدولي الاقتصادي والسياسي، الذي رمى بثقله داعيا لإعادة الحكم المدني للسودان.
تأييد القوى السياسية
ولقي الاتفاق السياسي بين رئيس مجلس السيادة الانتقالي في السودان ورئيس الوزراء تأييدا من عدد من القوى السياسية، في مقدمتها قوى الحرية والتغيير - الميثاق الوطني، وعدد من الأحزاب والكيانات السياسية والشبابية ومنظمات المجتمع المدني، بينما أرجأت قوى سياسية أخرى تحديد مواقفها لحين الاطلاع الكامل على بنود الاتفاق واستكمال مشاوراتها لإصدار قراراتها بشأنه.. بينما كان تجمع المهنيين السودانيين، الذي يقود الحراك الثوري على الأرض، في مقدمة الرافضين للاتفاق، وأعلن تصعيد المواقف الثورية ضده، فيما شددت قوى إعلان الحرية والتغيير المجلس المركزي على أن الإعلان لا يعنيها وبدأت الاستعداد لتنظيم مسيرات سلمية تقوي موقفها.
ومن خلال المتابعات المتأنية، يبدو المشهد السياسي الراهن في السودان منقسما جدا تجاه الاتفاق السياسي رغم ما لقيه الاتفاق من ترحيب خارجي.
واقتصاديا، مازال المواطن السوداني يعاني من ارتفاع الأسعار، كما أن الثبات النسبي المؤقت الذي طرأ علي سعر صرف العملة المحلية "الجنيه" مهدد بالتلاشي، بسبب التعقيدات الكثيرة والكبيرة المصاحبة للمشهد السياسي، وفي مقدمتها عدم استكمال متطلبات الاندماج في الاقتصاد العالمي لتحقيق التعافي الاقتصادي، ومخاطر التهديدات الأمنية الداخلية التي لا تساعد على جذب الاستثمارات العالمية الضخمة التي تهيأت خلال الفترة الماضية للشروع في شراكات أجلتها الأزمة السياسية الأخيرة، فضلا عن هشاشة الحلول المطروحة لها، والتي تحتاج إلى يقين اقتصادي كامل لتشجيع المجتمع الدولي للتعامل معها.
ومجمل القول إن الأوضاع السياسية في السودان تتسم بتعقيدات يحكمها الحراك الشعبي في الشارع، ومدى استجابته للاتفاق الجديد، إلى جانب حالة الانقسام الحادة بين الأطراف المختلفة.
وسبق أن تم الإعلان عن مبادرات مماثلة للاتفاق الحالي من قبل رئيس مجلس الوزراء الدكتور عبدالله حمدوك أسماها "خارطة الطريق إلى الأمام"، لكنها لم تلق الاستجابة الكافية التي تمكنها من تحقيق نتائج ملموسة على الأرض.. ويبقى التحدي الأكبر هو الوجوه الوزارية القادمة ومدى القبول الذي ستحظى به، وإلى أي مدى ستغير في مسارات الحلول سلبا أم إيجابا؟.