على أنقاض المسجد العمري الكبير شرقي مدينة غزة، وفي أولى ليالي شهر رمضان المبارك أقامت إدارة المسجد حفل مديح نبوي احتفاء بقدوم الشهر الفضيل، في مشهد يحمل رسالة تحد وصمود أمام الاحتلال الإسرائيلي الذي دمر المسجد خلال عدوانه على قطاع غزة، الذي استمر لأكثر من 15 شهرًا، وأدى إلى تدمير معظم مساجد القطاع.
ويقول أحد القائمين على إدارة المسجد، إن إقامة حفل المديح النبوي في أول ليالي رمضان، جاء بمثابة رسالة صمود في وجه الاحتلال الإسرائيلي، الذي لم يراع حرمة المساجد ولم يحترم المقدسات الدينية خلال عدوانه الأخير.
ويضيف في حديثه لوكالة الأنباء القطرية "قنا"، "كانت لصلاة التراويح وشعائر شهر رمضان في المسجد العمري الذي يعتبر من أقدم المساجد في قطاع غزة، بهجة خاصة قبل العدوان الإسرائيلي، حيث كان الآلاف يتوافدون من مختلف مناطق القطاع، كما كنا نستضيف أفضل الأئمة والمقرئين، لكن الحال تغير هذا العام، فلا أجواء احتفالية ولا بهجة كما كان من قبل".
ويشير إلى أن الدمار لم يقتصر على هدم المسجد فحسب، بل فقد المصلون أيضا إمامهم، الذي كان يؤمهم في رمضان، والذي تميز بجمال صوته وعذوبة قراءته، ليخلف الاحتلال بذلك فراغا روحيا وحزنا عميقا بين رواد المسجد.
ويقع المسجد العمري الكبير في وسط ما يعرف بـ "غزة القديمة"، حيث يتوسط شارع عمر المختار، ويعتبر من أقدم وأعرق وأكبر مساجد قطاع غزة، حيث تبلغ مساحته 4100 متر مربع، مع فناء بمساحة 1190 مترا مربعا، وكان يمتلئ بكافة مساحته بالمصلين خلال صلاة التراويح والقيام قبل الحرب على غزة.
استهداف بيوت الله
وخلال الحرب الإسرائيلية الأخيرة، دمرت قوات الاحتلال المئات من المساجد في أنحاء قطاع غزة، في سياسة ممنهجة استهدفت بيوت الله، ومن بين المساجد التاريخية التي تعرضت للقصف: مسجد الكنز في حي الرمال وسط مدينة غزة، ومسجدا عثمان بن عفان والقزدمري في حي الشجاعية شرق المدينة، ومسجدا السرايا وأبو خضرة وسط غزة، ومسجد الشافعي في حي الزيتون.
وقال الدكتور عبدالهادي الأغا وكيل وزارة الأوقاف والشؤون الدينية في قطاع غزة، في حديث خاص لوكالة الأنباء القطرية "قنا"، إن الاحتلال دمر أكثر من 1109 مساجد من أصل 1244 مسجدا في قطاع غزة، بين تدمير كلي وجزئي، ما أثر بشكل مباشر على قدرة الفلسطينيين على أداء شعائرهم الدينية في رمضان.
وأشار إلى أن المساجد المدمرة كليا بلغ عددها 834 مسجدًا، حيث سويت بالأرض، وتحولت إلى أنقاض، فيما تضرر 275 مسجدا بأضرار جزئية بليغة مما جعلها غير صالحة للاستخدام، ما أثر بشكل مباشر على أداء الشعائر الدينية وإقامة الصلوات في رمضان.
وأوضح وكيل وزارة الأوقاف والشؤون الدينية في غزة أن برامج المساجد الرمضانية، التي تشمل صلوات الجماعة، والتراويح، والقيام، والتهجد، إضافة إلى الإفطارات الجماعية، باتت منقوصة أو غائبة بالكامل نتيجة التدمير الممنهج الذي طال عددا كبيرا من المساجد في مختلف أنحاء القطاع.
وأشار إلى أن المعاناة لا تقتصر على تدمير المساجد، بل تمتد إلى البنى التحتية والشوارع المحيطة بها، ما يجعل الوصول إليها صعبا، خاصة خلال صلاتي العشاء والفجر، في ظل انعدام التيار الكهربائي والظلام الدامس الذي يخيم على الطرقات.
وأكد أن هذه التحديات تلقي بظلالها على قدرة الفلسطينيين في القطاع على أداء شعائرهم الدينية خلال الشهر الفضيل، مشددا على أن الوزارة تبذل جهودا لتوفير البدائل الممكنة وسط هذه الظروف الصعبة.
وفي ظل الدمار الواسع الذي خلفه العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، شرعت وزارة الأوقاف والشؤون الدينية في غزة بإنشاء أكثر من 400 مصلى مؤقت في مختلف أنحاء القطاع لتعويض المساجد التي دمرها الاحتلال، وذلك بهدف إتاحة بدائل للمواطنين لأداء شعائر رمضان.
وأوضح إكرامي المدلل، مدير العلاقات العامة والإعلام في الوزارة خلال حديثه لوكالة الأنباء القطرية "قنا"، أن هذه المصليات المؤقتة تم إنشاؤها باستخدام الخيام، الشوادر، الأخشاب، والقضبان الحديدية، حيث أقيمت على أنقاض المساجد المدمرة أو بجوارها. لكنه أكد أنها غير مهيأة بالكامل، إذ تفتقر إلى الخدمات الأساسية مثل أماكن الوضوء، الإضاءة، وأجهزة الصوت، فضلا عن أنها شديدة البرودة بسبب الظروف الجوية القاسية.
وأشار المدلل، إلى أن الوزارة تبذل جهودا كبيرة رغم انعدام الإمكانيات وتدمير مقدراتها خلال العدوان، لضمان توفر أجواء إيمانية وبيئة مناسبة للمصلين، سواء في المساجد التي لا تزال قائمة أو في المصليات المؤقتة.
ورغم الخراب الذي عم القطاع، أكد الشيخ عزات السويركي، إمام مسجد دار القرآن الكريم والسنة في حي النصر بمدينة غزة، أن سكان القطاع يشعرون هذا العام بفرحة خاصة بعودة إقامة الصلوات وإحياء شعائر رمضان، بعد أن حرموا منها العام الماضي بسبب القصف الإسرائيلي الذي استهدف المساجد.
وقال السويركي في حديث لـ"قنا": "نعيش أجواء العبادة، على عكس العام الماضي، حين حرمتنا حرب الإبادة الجماعية من أداء الشعائر الرمضانية، كان شهرا صعبا وأليما في قلوبنا لحرماننا القسري من العبادة".
وخلفت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، التي توقفت عقب اتفاق وقف إطلاق النار في 19 يناير الماضي، دمارا وخرابا غير مسبوق طال مناحي الحياة كلها، وحولت القطاع المحاصر إلى منطقة منكوبة، يفتقد سكانه لأدنى المقومات الإنسانية.