2022 سنة المونديال في العاصمة القطرية الدوحة، أوفت بالوعود وأسكتت المنتقدين والمشككين، فبعد سنوات من العمل والتخطيط القائمين على الإبداع والتفرد في مختلف مراحل الاستعدادات، انطلقت منافسات كأس العالم FIFA قطر 2022 في العشرين من نوفمبر الماضي بحفل افتتاح مبهر مزج بين الثقافة العربية والإسلامية والخليجية.
قبل اثني عشر عامًا من حفل الافتتاح قدمت قطر ملفاً متكاملاً في سباق الفوز بشرف احتضان المونديال، واستطاعت أن تتفوق على أبرز دول العالم، الولايات المتحدة الأمريكية، اليابان، كوريا الجنوبية، وأستراليا، بعد تميز ملفها بالتنوع والتفرد، خاصة في مجالي الإرث والاستدامة.
أولى خطوات النجاح
أولى خطوات نجاح تنظيم مونديال قطر جاءت عبر صدور القرار الأميري رقم 27 في أبريل من العام 2011 بإنشاء اللجنة العليا للمشاريع والإرث، التي مُنحت ممارسة جميع الصلاحيات والاختصاصات اللازمة لتحقيق أهدافها، وعلى رأس تلك الأهداف، وضع الاستراتيجيات والسياسات العامة للدولة المتعلقة بمونديال 2022، والعمل على إيجاد البيئة المواتية لتنظيم وإنجاز البطولة، من جميع النواحي القانونية والتنظيمية والعمرانية والاجتماعية والاقتصادية، وتحديد الأطر الكفيلة بدعم وتشجيع مختلف الفعاليات والأنشطة المتعلقة بالمونديال.
ومن أجل المضي قدمًا نحو الحلم وتوفير أفضل الظروف الملائمة لتنظيم البطولة، وضعت اللجنة العليا للمشاريع والإرث خططًا مختلفة وبرامج متفردة لإنجاح الحدث، فكانت البداية مع الإعلان عن تصميم استاد الجنوب بمدينة الوكرة في نوفمبر 2013، الذي يجسد بتصميمه المبتكر التراث القطري من خلال شكله المستوحى من القوارب الشراعية التقليدية، حيث بدأت أعمال التشييد والبناء في العام 2014.
لم تكن الاستعدادات القطرية لإنجاح المونديال على صعيد ملاعب البطولة فقط، وإنما على البنية التحتية التي شهدت طفرة في مختلف المجالات، أبرزها الانتهاء من مطار حمد الدولي وبداية استقباله للرحلات رسمياً في نهاية شهر مايو 2014، ليدشن مرحلة جديدة في عالم النقل والسفر، حيث يعتبر هذا المشروع الحيوي والاستراتيجي المهم، واحدًا من بين أبرز المشاريع الكبيرة التي خدمت عملية نجاح المونديال عبر استقبال عشرات الآلاف من المشجعين الذين حرصوا على القدوم إلى الدوحة لمشاهدة ومتابعة الحدث العالمي.
جولات تعريفية
البنية التحتية والإنشاءات والملاعب لم تكن وحدها كافية لإنجاح مونديال قطر، وهذا ما وعته اللجنة العليا للمشاريع مبكرًا حيث بدأت في 2015 جولاتها التعريفية مجتمعيًا بأنشطتها المختلفة للتواصل المجتمعي، حيث مثلت هذه الجولات فرصة للتعريف بالبطولة وما ستتركه من إرث مستدام لدولة قطر والمنطقة، فضلاً عن تعريف المجتمع المحلي بالمبادرات التطوعية التي تنظمها اللجنة، ودفعه ليكون شريكاً وفاعلاً في التحضير والتنظيم للبطولة.
وفي إطار جولات التعريف، نظّمت اللجنة العليا على هامش أولمبياد ريو 2016 في البرازيل "بيت قطر" والذي ضم العديد من الفعاليات التعريفية بدولة قطر وبالمونديال، حيث شهدت هذه الفعالية حضوراً فاعلاً من خلال الإقبال الكبير على زيارتها من قبل الجمهور البرازيلي للتعرف على استعدادات دولة قطر لتنظيم الحدث الكروي الأهم عالميًا.
وضم موقع بيت قطر العديد من المجسمات الخاصة بملاعب المونديال من بينها استاد أحمد بن علي، بالإضافة إلى العديد من الفعاليات التي قدمت تصوراً كاملاً لطبيعة الاستعدادات الجارية في دولة قطر لاستضافة هذا الحدث العالمي، ومن ثم بعد انتهاء الأولمبياد تحول موقع "بيت قطر" إلى مدرسة حكومية ثنائية اللغة باسم "مدرسة إليفا" رغبة من دولة قطر في ترك بصمة خاصة لمونديال قطر ودائمة في هذه المدينة.
عامًا بعد عام بدأ النجاح يقترب وحلم المونديال يظهر للعلن مع تدشين استاد خليفة الدولي، أول ملاعب البطولة جاهزية، في 19 مايو 2017 بعد تجديده وإضافة نحو 12 ألف مقعد ليصبح عدد مقاعده 40 ألفاً، خاصة أن هذا الملعب الذي يعود تاريخ إنشائه إلى العام 1976، يحتل مكانة خاصة في نفوس القطريين لما يحفل به من ذكريات ارتبطت معهم باحتضان هذا الملعب للعديد من البطولات المحلية والإقليمية.
الكشف عن تصميم الملاعب
وفي السادس والعشرين من نوفمبر 2017، كشفت اللجنة العليا للمشاريع والإرث عن تصميم استاد 974، سابع ملاعب المونديال، والذي شكّل طفرة في بناء الملاعب نظرًا لتصميمه المبتكر والجريء، فضلا عن بنائه باستخدام حاويات الشحن البحري، بالإضافة لمواد قابلة للتفكيك تشمل الجدران والسقف والمقاعد، والتي اجتمعت معا لتشكل تصميما حديثا لمكعب منحني الزوايا ذي إطلالة مميزة.
واصلت اللجنة العليا جهودها فيما يتعلق بملاعب المونديال، حيث كشفت عن تصميم استاد لوسيل في الخامس عشر من ديسمبر عام 2018، أكبر ملاعب المونديال وهو يجمع في تصميمه بين ماضي دولة قطر العريق ومستقبلها المشرق ويتسع لأكثر من 80 ألف مشجع، وهو الملعب الذي سيستضيف بعد أيام قليلة المباراة النهائية يوم الثامن عشر من ديسمبر الجاري، والذي يصادف اليوم الوطني لدولة قطر.
خطوات النجاح لتنظيم المونديال تواصلت مع مرور الوقت، ففي مارس 2019 تم افتتاح استاد الجنوب بمدينة الوكرة كثاني ملاعب المونديال جاهزية، ومن ثم تم الكشف في الثالث من سبتمبر 2019 عن الشعار الرسمي للمونديال، والذي جاء عبر عرضه على شاشات ضخمة في العديد من المعالم البارزة بدولة قطر، كما شارك العديد من الدول العربية والعالمية بعرض الشعار في ذات التوقيت الذي تم الكشف عنه في الدوحة، فعُرض في روسيا والكويت وعُمان ولبنان والأردن وتونس والجزائر والمغرب والعراق وفلسطين وليبيا والسودان.
تصميم الشعار عكس البعد الجامع للبطولة بوصفها منصة لالتقاء الثقافات من مختلف أرجاء العالم، كما أنه يتضمن عدة عناصر مستوحاة من الثقافة القطرية والعربية التي تتناغم مع مكونات لعبة كرة القدم.
استُوحي شعار المونديال من شال الصوف المعروف في العالم العربي، والذي تم تزيينه بالنقوش الشرقية، وأخذ شكل الرقم "8" في دلالة على ملاعب المونديال التي تستضيف البطولة، فضلا عن أن الشعار يأخذ الإلهام من مختلف الثقافات حول قارة آسيا ويحتفي باستضافة القارة لثاني نسخة من نهائيات كأس العالم، بالإضافة إلى التنوع الغني الذي يثري المجتمع في دولة قطر.
اكتمال جاهزية الملاعب
رحلة النجاح استمرت مع اكتمال جاهزية ملاعب البطولة، ففي الخامس عشر من يونيو 2020، أعلنت اللجنة العليا عن جاهزية استاد المدينة التعليمية، ثالث ملاعب المونديال جاهزية، والذي صُمم ليكون صرحًا رياضيًا وشاهدا على تاريخ هذه البطولة الاستثنائية.
وقبل عامين بالتمام من المباراة النهائية للمونديال وفي الثامن عشر من ديسمبر 2020، الموافق اليوم الوطني لدولة قطر، تم افتتاح، استاد أحمد بن علي رابع ملاعب المونديال جاهزية، بعد استاد خليفة الدولي بعد تجديده واستاد الجنوب واستاد المدينة التعليمية.
في 22 أكتوبر 2021، تم تدشين ملعب الثمامة الذي استُوحي شكله من القحفية التي عُرف بلبسها على الرأس سكان دولة قطر ومنطقة الخليج العربي، ويقع الملعب على بعد 12 كيلومترًا إلى الجنوب من وسط مدينة الدوحة وعلى مقربة من مطار حمد الدولي، ويمزج بين الأصالة والمعاصرة في التصميم، محتفياً بالتراث العربي الأصيل الذي تتناقله الأجيال في دولة قطر والمنطقة على مدى العقود، وقام بتصميم هذا الاستاد المصمم القطري إبراهيم الجيدة.
قبل عام على انطلاق الحدث العالمي وفي 21 نوفمبر 2021 وفي إطار التحضيرات النهائية للبطولة، تم الكشف عن ساعة العد التنازلي الرسمية لكأس العالم في احتفالية أقيمت على كورنيش الدوحة وأبهرت العالم، حيث تم تصميم الساعة بطريقة استُلهمت فيها المنحنيات الأنيقة من الحلقة المتصلة التي تشكل شعار كأس العالم، وأيضاً من الساعة الرملية القديمة التي كانت تُستخدم لحساب الوقت وكلتاهما تعكسان الطبيعة المترابطة والمتقاربة لمونديال قطر.
تنظيم كأس العرب 2021
وتشكلت البروفة الأهم في المسيرة الطويلة لإنجاح مونديال قطر، في تنظيم بطولة كأس العرب FIFA قطر 2021، أو ما عُرف بمونديال العرب في الفترة من 30 نوفمبر وحتى 18 ديسمبر 2021، وهي النسخة العاشرة من البطولة، والتي أُقيمت لأول مرة بتنظيم من الاتحاد الدولي لكرة القدم، وعدت محاكاة ناجحة لتجربة استعدادات دولة قطر لتنظيم بطولة كأس العالم، وفرصة مثالية للارتقاء بالاستعدادات الخاصة باستضافة المونديال.
وخلال بطولة العرب قامت اللجنة العليا للمشاريع والإرث بتدشين وتشغيل ملعب "البيت" بمدينة الخور الذي شهد حفلي افتتاح وختام البطولة، وملعب "974، الذي استضاف مباريات البطولة حتى مباراة تحديد المركزين الثالث والرابع.
وقبل شهور قليلة على انطلاق الحدث، دشنت اللجنة العليا في التاسع من سبتمبر 2022 استاد لوسيل، أكبر ملاعب المونديال الذي يتسع لأكثر من 80 ألف متفرج، في مباراة كأس سوبر لوسيل، والتي جرت بين نادي الهلال بطل الدوري السعودي ونادي الزمالك بطل الدوري المصري، بحضور جماهيري تجاوز 78 ألف متفرج، وكان بمثابة محاكاة جيدة لأجواء المونديال.
ومع اكتمال كافة التجهيزات أصبحت لدى قطر بنية تحتية قوية "مطار دولي (2014) ميناء دولي (2017) وطرق ضخمة وشبكة مترو متكاملة (2019)"، تمثل مؤشرًا على قدرة هذا البلد على جذب الاستثمارات الأجنبية، ليس في قطاع الغاز والنفط فحسب بل في القطاع المالي والتجاري والرياضي أيضاً.
النجاح الكبير الذي حققه مونديال قطر يظهر جلياً في الإشادة التي تطلقها الصحف والشبكات العالمية يومياً، فضلاً عن الإقبال الكبير من المشجعين على متابعة الحدث العالمي، حيث بلغ عدد متابعي منصات التواصل 135 مليون متابع منذ انطلاق البطولة، وذلك بزيادة 15 مليونًا، مقارنة بالنسخة السابقة من المونديال.
الآن ونحن على أعتاب وداع المونديال، ربحت قطر الرهان سواء في الاستعداد أو تنظيم الحدث الكروي العالمي، حيث تحولت البلاد إلى قبلة للجماهير العالمية، التي جابت أطرافها شمالاً وجنوباً لمتابعة المونديال وفعالياته، وتمكن الكثيرون منهم من مشاهدة أكثر من مباراة في اليوم الواحد، والاستمتاع بالفعاليات المصاحبة والحفاوة والكرم العربي.
المصدر: الدوحة - قنا