على مدار سبعة عقود قضتها في الحكم، كانت حياة ملكة بريطانيا الراحلة، إليزابيث الثانية، حافلة بالتحديات والمسؤوليات، ليأتي إعلان وفاتها، اليوم الخميس، ليطوي صفحة مهمة في التاريخ البريطاني.
وقد تميزت الفترة الطويلة لعهدها بالعزيمة الصلبة، حيث عاصرت ظروفا عالمية متنوعة، وتحديات صعبة على مستوى السياسة الدولية، منها قيام الجمهوريات على أنقاض الممالك في دول عدة مثل مصر والعراق، كما شهدت السنوات الأولى لحكمها تراجعا في نفوذ دولتها، مع توالي استقلال الدول المستعمرة عن التاج البريطاني، لكن نجاح إليزابيث الثانية في الحفاظ على الملكية خلال هذه الفترات العصيبة، كان بحق إنجازا مُهما.
وعاصرت الملكة الراحلة في حكمها تغييرات عالمية كبرى، كانهيار الاتحاد السوفيتي في مطلع تسعينيات القرن الماضي، والوحدة الألمانية في التوقيت ذاته، ورغم أدوراها الرمزية في حكم البلاد، إلا أن عهدها اتسم بقدرة كبيرة على الصمود في مواجهة الأزمات.
الملكة.. المولد والنشأة
ولدت إليزابيث الثانية في 21 أبريل عام 1926 -عرفت وقتها بـ"الأميرة إليزابيث"- في لندن، وكانت الأميرة هي الابنة الكبرى للملك جورج السادس وإليزابيث باوز ليون.
حتى ذلك الوقت، لم يكن في الحسبان أن تصبح الأميرة الصغيرة ملكةً في يوم من الأيام، نظرا لوجود عمها أمير ويلز، والذي أصبح لاحقا الملك إدوارد الثامن، وأيضا وجود والدها، ولم يكن جلوسها على العرش بعد ذلك بسبب وفاة والدها فحسب، بل كان أيضا بسبب تخلي عمها عن العرش من أجل الزواج من المطلقة الأمريكية واليس سيمبسون.
كانت إليزابيث هي الفرد الوحيد في العائلة الملكية الذي خدم في الجيش لفترة من الزمن، وقد تلقت وشقيقتها مارجريت روز، المولودة سنة 1930، تعليمهما في المنزل، وترعرعتا في جو عائلي متماسك، وكانت إليزابيث مقربة جدا من والدها وجدها جورج الخامس.
في سرد سيرتها الذاتية، يقول موقع BBC عن الملكة الراحلة، إنها كانت تتحلى بقدر عال من المسؤولية منذ نعومة أظافرها، ونُقل عن ونستون تشرتشل، قبل توليه رئاسة الوزراء، قوله: "إن ملامح السلطة ظاهرة عليها بشكل مدهش".
وقد أثبتت إليزابيث مهارتها في اللغات وقامت بدراسة معمقة في التاريخ الدستوري رغم تعليمها المنزلي، ومنذ جلوسها على العرش، اتسمت حقبة الملكة إليزابيث بالانضباط والشعور بالواجب.
الزواج والتتويج
في 20 نوفمبر 1947، أقيم أول حفل زفاف ملكي في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، عندما تزوجت إليزابيث من الأمير فيليب مونتباتن الذي تعود أصوله إلى الأسرتين الملكيتين اليونانية والدنماركية، وأصبح ضابطا في البحرية الملكية وحصل على لقب دوق إدنبرة قبل الزواج.
وقطعت إليزابيث على نفسها عهدا بتكريس حياتها للشعب البريطاني، وذلك عند إعلان تتويجها على عرش البلاد عام 1953، وقد عُرف عنها أنها حاسمة في القرارات الصعبة، مثل قرار دولتها خوض حرب جزر الفوكلاند ضد الأرجنتين عام 1982.
وعلى صعيد المراسم والبروتوكولات الصارمة، كان يتعين على الملكة حضور قرابة 500 موعدا رسميا كل عام، ما جعلها أكثر رؤساء الدول شهرة في التاريخ، لخوضها مئات الزيارات الملكية حول العالم، على متن اليخت الملكي البريطاني "بريتانيا" بما في ذلك جولة استمرت حول العالم 6 أشهر بين عامي 1953 و1954.
أسلوب الحياة
في حياتها، عُرفت الملكة إليزابيث الثانية بأنها واحدة من أكثر الشخصيات الملكية التزاما بالبرتوكولات والقواعد الملكية، ويشمل ذلك كل أسلوب حياتها اليومية، إذ لم تكن تتهاون في ذلك على الإطلاق.
بحسب موقع BBC البريطاني، كانت إليزابيث الثانية واحدة من أكثر النساء اللواتي التقطت لهن صور في التاريخ، وخلال السبعين عاما الأخيرة، تمكنت من تجسيد معنى عبارة "أن ترتدي ملابس كالملكات".
قد لا تكون ملكة بريطانيا الراحلة من صناع صيحات الموضة، أو صاحبة أسلوب جريء، لكنها بالتأكيد مبدعة، لقد أصبحت ذات أسلوب شهير، وعرفت بفساتينها ومعاطفها ذات الألوان الزاهية مع قبعات متطابقة، وحقيبة يدها المربعة المميزة، وعقد اللؤلؤ الشهير مع مشبك "بروش" مرصع بالجواهر، قد يبدو الأمر بسيطا، لكن أسلوب الملكة في اختيار الملابس يحقق معادلة صعبة.
عندما كانت الملكة إليزابيث الثانية تظهر في أي مناسبة عامة، يكون كل جانب من مظهرها قد خطط له بعناية ودقة، إذ تفحص الأقمشة لمعرفة كيفية تثنيها أو تجعدها، أو ماذا يمكن أن يحدث لها إذا هبت ريح.
ويتم اختيار الألوان الزاهية بحسب الموسم والمناسبة، لتحدث تأثيرا فوريا وتبرز فرادتها وسط الحشد، أما القبعة فتمنح قامة الملكة مزيدا من الطول بشكل طفيف وتبرز وجهها.
كما ترتدي أحذية مختارة بعناية وبكعب عريض، ومصنوعة يدويا خصيصا لها، ويتم تجربتها أولا من قبل آخرين للتأكد من أنها مريحة، ودائما هناك من يحمل لها مظلة شفافة ذات حواف بألوان مطابقة لثوبها وفي وضع الاستعداد، لكي لا يسمح للطقس البريطاني الذي يصعب التكهن بتغيراته بأن يتدخل ويفسد أي شيء.
الأيام الأخيرة
كانت إليزابيث الثانية تعاني من "مشكلات عرضية في الحركة" منذ نهاية العام الماضي، سببت لها صعوبة في المشي والوقوف، وقد أبدى أطباء الملكة قلقهم على صحتها، قبل أن يعلن قصر باكنجهام وفاتها عن 96 عاما.
وأعلن القصر وفاة الملكة عن عمر ناهز 96 عاما، وقد نكس القصر الملكي الأعلام عقب إعلان الوفاة، ويخلف تشارلز والدته ليصبح ملك بريطانيا الجديد.
وقال قصر باكنجهام في بيان "توفيت الملكة بسلام في قلعة بالمورال بأسكتلندا بعد ظهر اليوم"، وأضاف البيان أن "الملك وعقيلته سيبقيان في بالمورال هذا المساء وسيعودان إلى لندن غدا".
وبإعلان وفاة الملكة اليوم، يصبح ابنها الأكبر تشارلز (73 عاما) ملك بريطانيا تلقائيا وقائدا لكومنولث يضم 14 دولة أخرى، من بينها أستراليا وكندا ونيوزيلندا.